27/10/2025
                                            ديناميات الصراعات الوالدية وانعكاسها على النمو النفسي للطفل
أغلب شكاوى الوالدين من أبنائهم تدور حول العناد وعدم الطاعة. وعند فحص الحالات ومتابعة ديناميات الأسرة، يتضح أن المشكلة لا تتعلق بالطفل وحده، بل بالبيئة التي ينشأ فيها. نسبة كبيرة من الأسر تتعامل مع الخلافات الزوجية وكأنها لا تؤثر في الأطفال، بينما في الحقيقة، أبسط تعامل بين الوالدين ينعكس على الأبناء، فكيف تكون الحال عند وجود شجارات متكررة وصراخ دائم؟
أحد أهم مقومات النمو النفسي والعاطفي السليم للطفل هو شعوره بالاطمئنان. يتكوّن هذا الإحساس عندما ينشأ الطفل في بيئة آمنة تمنحه الحماية والقبول والحب غير المشروط، ويظهر ذلك بوضوح عندما يرى والديه متعاونين ومتفاهمين في تعاملاتهما اليومية.
أما الشجار المستمر، سواء بين والدين يعيشان معًا أو منفصلين، فيترك أثرًا عميقًا في نفسية الطفل. معظم النزاعات بين الكبار تتضمن اللوم، الاتهام، الصوت العالي، الإهانات، التقليل من شأن أحد الطرفين أو التقليل من دوره داخل الأسرة، وفي بعض الأحيان يتطور الأمر إلى العنف الجسدي، وقد يكون الاعتداء متبادلًا بينهما، مما يزيد من حدة الصراع ويضاعف الأثر النفسي السلبي على الأطفال فهذه المشاهد تترسخ في ذاكرة الطفل وتضعف شعوره بالأمان.
الأطفال يمكنهم تحمل الطلاق أكثر من تحملهم الشجار المزمن. الطلاق قد يكون مؤلمًا لكنه واضح ومستقر، أما الخلاف المستمر فهو استنزاف دائم لأعصاب الطفل ونظامه النفسي. 
يسمع الصراخ في البيت كأنه صوت داخلي لا ينتهي، فيصاب بالقلق واضطرابات النوم والأكل، ويضعف إحساسه بالثقة بالنفس. حينها يصبح الطفل خائفًا، مترددًا، منسحبًا، ويشعر أنه بلا حماية.
تشمل جذور الصراعات الزوجية الأمور المادية، وترتيب الأولويات، واتخاذ القرار داخل الأسرة. فحين يختلف الزوجان حول كيفية الإنفاق أو ما يُقدَّم على غيره من احتياجات، تتصاعد التوترات تدريجيًا. ويزداد الأمر تعقيدًا عندما تكون هناك خلافات قديمة لم تُصفَّ بعد، أو ذكريات مؤلمة لم يحدث حولها تراضٍ أو غفران حقيقي. عندها يتحول كل خلاف جديد إلى إعادة إحياء لتاريخ من الجراح المتراكمة، لا مجرد نقاش حول موقف واحد.
ويُضاف إلى ذلك الاختلاف السيكولوجي بين الرجل والمرأة، وهو أحد الجوانب العميقة في فهم الصراع الأسري. 
فالرجل غالبًا يميل إلى الحلول العملية المباشرة والتفكير المنطقي، بينما تميل المرأة إلى التعبير الانفعالي والحاجة إلى الإصغاء والتفهم. هذه الفروق ليست سلبية في حد ذاتها، لكنها تتحول إلى مصدر توتر دائم إذا لم تُفهم بوعي. فبدلًا من التكامل بين الأدوار، تتحول إلى مواجهة مستمرة يسودها سوء الفهم والانفعال العاطفي.
يعتقد كثير من الأطفال أنهم السبب وراء الشجار بين والديهم، خاصة عندما يتمحور الخلاف حولهم، مثل قضايا التربية أو الإنفاق على الدروس والمستلزمات اليومية أو تنظيم أوقات المبيت، فينشأ لديهم شعور بالذنب والمسؤولية عن ما يحدث داخل الأسرة.
هذا الشعور بالذنب يضاعف ألمهم النفسي. والأسوأ أن الطفل يتعلم من والديه أسلوب التواصل نفسه، فيعيد ما يراه في بيته داخل المدرسة أو مع أصدقائه.
فعندما يشعر بأن مصدر الأمان الأساسي في حياته مهدد أو أن بيئته غير مستقرة وهادئة، يتراكم بداخله غضب مكبوت لا يجد طريقًا للتعبير عنه.
حينها يبدأ في التصرف بعنف غير مبرر، فيفرّغ ما بداخله من توتر وألم من خلال الخروج عن المألوف أو كسر القواعد، وكأن كل تصرف اندفاعي منه هو صرخة ألم صامتة تعبّر عن مشاعر لم يُتح له أن يعبّر عنها بالكلمات.
عندما ينشغل الوالدان بخلافاتهما المستمرة، تتحول طاقتهما العاطفية والذهنية إلى إدارة الصراع بدلًا من الاهتمام بالطفل فلا يجد الابن أو الابنة من يسمعهم، أو يشاركهم تفاصيل يومهم، أو يتابع دراستهم وسلوكهم بشكل منتظم.
غياب هذا الحضور النفسي والتربوي يجعل الطفل يشعر بأنه غير مرئي أو غير مهم، فيفقد الحافز على الالتزام والتفوق. فيبدأ مستواه  الدراسي في التراجع، وقد تظهر عليه سلوكيات لافتة للانتباه مثل العناد، التمرد، أو الانسحاب كوسيلة غير مباشرة لطلب الاهتمام.
كما أن غياب النموذج الهادئ والمتزن في البيت يجعل الطفل يفتقد مهارات التنظيم والانضباط، فيقل التزامه بالقواعد في المدرسة أو في التعامل مع الآخرين.
ومع مرور الوقت، يتحول هذا الإهمال غير المقصود إلى خلل في التوازن النفسي والسلوكي، لأن الطفل لا يجد بيئة تحتضنه أو توفر له شعور الاستقرار الذي يحتاجه لينمو بأمان.
عندما تتفاقم الخلافات داخل الأسرة ويصبح المنزل بيئة مشحونة بالصراع، يكون من الأفضل إبعاد الأطفال مؤقتًا إلى مكان أكثر استقرارًا مثل بيت الأجداد، مع التأكيد على ضرورة التزام الكبار بالحياد التام وعدم الانحياز لأي من الوالدين. 
هذا الإجراء يهدف إلى حماية الأطفال من الآثار النفسية الناتجة عن مشاهدتهم المتكررة للنزاعات. وفي بعض الأحيان، قد يكون الانفصال خيارًا أكثر رحمة من الاستمرار في حياة يغلب عليها التوتر والصراخ والاتهامات المستمرة.
في كل الأحوال، يحتاج الطفل إلى من يساعده على التعبير عن مشاعره المكبوتة، وقد يكون المختص النفسي هو الملاذ الآمن لذلك. فالكبت 
المستمر يؤدي إلى اضطرابات نفسية مثل التبول اللاإرادي، الخوف المزمن، أو نوبات الغضب. يجب على الوالدين ألا يحاولا كسب الطفل لطرف دون الآخر أو تشويه صورة أحدهما أمامه، لأن ذلك يدمر توازنه الداخلي.
من الضروري أيضًا ألا يُجبر الطفل على الانحياز لأحد والديه، لأن هذا يولّد شعورًا بالذنب والارتباك الداخلي. أو يقوم احد طرفي الصراع باستخدام الطفل كوسيلة ضغط على الطرف الآخر، فيتحول الطفل إلى أداة في الصراع بدلًا من أن يكون طرفًا محميًا منه، مما يترك أثرًا نفسيًا عميقًا فيه ويزيد شعوره بالارتباك والضياع، فالأفضل أن يبتعد عن الصراعات، ويُترك في مساحة يشعر فيها بالهدوء والاستقرار.
الموضوع واسع ومتفرع، والأخطاء في إدارة الخلافات الأسرية كثيرة
لكنها كلها تترك آثارًا نفسية عميقة في الأطفال. 
ما يحتاجه الطفل ليس والدين بلا أخطاء
 بل والدان قادران على الإصغاء، والاعتذار
وإعادة الطمأنينة كلما اختلت.
وللحديث بقية 
أن كان في العمر بقية