23/09/2025
مركز معًا نرتقي:
( سلسلة تطوير القيادة بالأطر التربوية):
بقلم: أ.أسماء كيوان جبارين
*من المدير التقليدي إلى القائد الملهم: الذكاء العاطفي في الممارسات القيادية*
لطالما ارتبطت صورة المدير التقليدي بمفهوم السيطرة والرقابة الصارمة، حيث تُقاس الفاعلية بمدى الالتزام بالمهام والنتائج الملموسة. غير أنّ هذه الرؤية لم تعد كافية في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها عالم العمل، والتي تفرض على القادة اليوم تجاوز حدود الإدارة التقليدية إلى أنماط أكثر إنسانية وإلهامًا. وفي هذا السياق، يبرز الذكاء العاطفي كأحد أهم المكونات التي تُعيد تعريف القيادة وتمنحها بُعدًا استراتيجيًا يتجاوز المهارات التقنية والإدارية (Goleman, 1998). ومن هنا تنبع إشكالية المقال: كيف يساهم الذكاء العاطفي في إحداث نقلة نوعية من المدير التقليدي إلى القائد الملهم؟
القيادة التقليدية بين السيطرة والإدارة:
يرتكز المدير التقليدي على مجموعة من السمات الوظيفية التي تركز على التنظيم والرقابة وتوزيع المهام. هذا النموذج قد يحقق الانضباط، لكنه غالبًا ما يعاني من ضعف القدرة على تحفيز الأفراد أو بناء علاقات ثقة طويلة الأمد (السعدي، 2018). ومع بروز تحديات العمل الجماعي، والتغيرات السريعة في بيئات الأعمال، أصبح هذا النمط مقيدًا في قدرته على الاستجابة لمتطلبات العصر.
مفهوم الذكاء العاطفي وأبعاده:
الذكاء العاطفي، كما صاغه سالوفي وماير (Salovey & Mayer, 1990)، يشمل مجموعة من القدرات التي تمكّن الفرد من فهم ذاته والآخرين والتفاعل معهم بفاعلية. وتتجلى أبعاده في:
الوعي الذاتي: إدراك المشاعر وتأثيرها على السلوك.
إدارة الذات: القدرة على ضبط الانفعالات وتوجيهها نحو أهداف إيجابية.
الدافعية: استخدام العاطفة كمحفّز لتحقيق أهداف طويلة المدى.
التعاطف: استيعاب مشاعر الآخرين والتفاعل معها.
المهارات الاجتماعية: بناء علاقات متينة قائمة على الثقة والاحترام.
هذه الأبعاد، التي أبرزها جولمان (2000)، تُشكّل قاعدة أساسية لأي ممارسة قيادية ذات تأثير مستدام.
القيادة الملهمة المبنية على الذكاء العاطفي:
القائد الملهم لا يقتصر على إصدار الأوامر، بل يجسد القدرة على التأثير من خلال الفهم العميق لمشاعر الآخرين وتقدير احتياجاتهم. فهو يوظف الذكاء العاطفي في إدارة النزاعات بروح بنّاءة، وتحفيز الأفراد عبر إشراكهم في الرؤية المشتركة، وخلق بيئة عمل يشعر فيها كل عضو بأهمية دوره (Boyatzis & McKee, 2005).
الفرق الجوهري بين القائد الملهم والمدير التقليدي يكمن في نوع التأثير: فالمدير يعتمد على السلطة، بينما يعتمد القائد على الإلهام والتأثير العاطفي الإيجابي (Ashkanasy & Daus, 2005).
الذكاء العاطفي كأداة استراتيجية في العمل:
لم يعد الذكاء العاطفي مجرد مهارة شخصية، بل أصبح عنصرًا استراتيجيًا يحدد نجاح المنظمات. فمن خلاله تتحسن مستويات الأداء الفردي والجماعي (Carmeli, 2003)، ويزداد الانتماء والولاء التنظيمي. كما يتيح للقادة مواجهة الأزمات بمرونة وهدوء، وتحويل التحديات إلى فرص للنمو والتطور. وبذلك، يغدو الذكاء العاطفي أحد أهم ركائز القيادة المستدامة في القرن الحادي والعشرين.
إنّ الانتقال من الإدارة التقليدية إلى القيادة الملهمة ليس خيارًا تكميليًا، بل ضرورة تفرضها التحديات المعاصرة. ويظهر الذكاء العاطفي كأداة محورية تتيح للقادة بناء علاقات قائمة على الثقة، وتحقيق التوازن بين تحقيق الأهداف المؤسسية والاهتمام بالعنصر الإنساني. ومن هنا، فإن الاستثمار في تطوير الذكاء العاطفي لم يعد ترفًا، بل هو استثمار استراتيجي لضمان نجاح المؤسسات وبناء قادة ملهمين يقودون بعقولهم وقلوبهم على حد سواء.
المراجع
Ashkanasy, N. M., & Daus, C. S. (2005). Rumors of the death of emotional intelligence in organizational behavior are vastly exaggerated. Journal of Organizational Behavior, 26(4), 441–452.
Boyatzis, R. E., & McKee, A. (2005). Resonant Leadership: Renewing Yourself and Connecting with Others Through Mindfulness, Hope, and Compassion. Boston: Harvard Business School Press.
Carmeli, A. (2003). The relationship between emotional intelligence and work attitudes, behavior and outcomes. Journal of Managerial Psychology, 18(8), 788–813.
Goleman, D. (1998). Working with Emotional Intelligence. New York: Bantam Books.
جولمان، دانييل. (2000). الذكاء العاطفي والعمل. ترجمة: فاطمة غانم. بيروت: دار جرير.
السعدي، محمد. (2018). الذكاء العاطفي ودوره في تنمية المهارات القيادية. مجلة دراسات نفسية وتربوية، 12(3)، 45-67.
Salovey, P., & Mayer, J. D. (1990). Emotional intelligence. Imagination, Cognition and Personality, 9(3), 185–211.