الدكتور لطفي الحضري dr lotfi el hadri

الدكتور لطفي الحضري dr lotfi el hadri مؤسس علم النفس الفطري

المناورة السياسية في المساحات المعقدةبقلم: د. الحضري لطفيالمقدمةفي عالم السياسة الدولية، نادرًا ما تُصنع القرارات في فرا...
16/09/2025

المناورة السياسية في المساحات المعقدة

بقلم: د. الحضري لطفي

المقدمة
في عالم السياسة الدولية، نادرًا ما تُصنع القرارات في فراغ عقلاني أو بيئة مثالية، بل غالبًا ما تنبثق من تفاعلات معقدة تتقاطع فيها الضغوط المؤسسية مع المصالح المتعارضة والحسابات المتشابكة. وفي مثل هذه البيئات المقيّدة، يبرز مفهوم المناورة البنيوية باعتباره آلية لفهم كيفية تحرك الفاعلين حين يجدون أنفسهم في موقع ضعف أو تحت قيود خانقة.
والمناورة البنيوية، في جوهرها، ليست فعلًا سياديًا مطلقًا ولا مجرد تفاوض تقليدي أو صمود سلبي، بل هي حركة مرنة يُدير بها الفاعل توازن العلاقة بما يضطر الطرف الآخر إلى القبول بخيار لم يكن راغبًا فيه. إنها فن تحويل الاختلال إلى فرصة، ودفع الخصم إلى التنازل من داخل مأزقه الذاتي، لا من خلال فرض مباشر للقوة.
واختيار لفظ البنيوية مقصود لأنه يوسّع المفهوم من المجال السياسي إلى كل البُنى الإنسانية: الأسرية، الاجتماعية، المؤسسية، والدولية.
إن المناورة ليست التفافًا عابرًا، بل آلية راسخة في صميم البنية، تتحرك حيثما وُجدت علاقة غير متكافئة، تسعى – في جوهرها الأخلاقي – إلى استعادة قدر من التوازن والعدل الممكن.
وانطلاقًا من هذا الإطار، نقترح في هذا المقال مقاربة المناورة السياسية الأخلاقية، باعتبارها استجابة لمسؤولية إنسانية تتجاوز منطق المصلحة الذاتية المباشرة، خصوصًا في الحالة الفلسطينية الراهنة حيث تفرض الكارثة الإنسانية في غزة أسئلة ملحة حول غياب المبادرات العربية:
₋ هل توجد إرادة سياسية حقيقية لتفعيل أدوات المناورة المتاحة؟
₋ أم أن الامتناع بات موقفًا سياسيًا مستقرًا لا عجزًا ظرفيًا؟
ذكاء في إدارة الضعف:
الخيار الضروري: "التغابن"
من الخطأ اختزال المناورة السياسية الأخلاقية في بعدها القيمي المجرد أو اعتبارها مسألة تقديرية تتعلّق بما هو "أفضل". بل يجب النظر إليها – في بعض السياقات – كخيار "تغابني ضروري"، أي أنها ترتبط بمبدأ قرآني صريح، ورد في قوله تعالى: ﴿ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾ (التغابن: 9).
وقد فسّر علماء التفسير هذه الآية على النحو التالي:
₋ قال الطبري (ت. 310هـ): "التغابن: أن يُغبن أهل الجنة أهل النار"، أي أن تظهر في الآخرة خسارة مَن فرّطوا في دنياهم، مقابل ربح من استثمروا فيها ضمن طاعة الله عز وجل.
₋ وقال ابن عاشور (ت. 1393هـ): "أُطلق التغابن على يوم القيامة مجازًا؛ لأنه يظهر فيه غُبن الكافرين والمفرّطين، حيث تبين خُسرتهم أمام فوز المؤمنين".
بناءً على هذه المعاني، يصبح ترك المناورة الممكنة في القضايا الإنسانية تفريطًا له تبعات أخروية، لأن الله عز وجل سيحاسب الفاعل على ما كان في يده ولم يستعمله.
استثمار المساحات المتاحة
المناورة السياسية الأخلاقية ليست عملًا عسكريًا مباشرًا، بل توظيف للمساحات السياسية والاقتصادية والإعلامية المتبقية، مهما كانت ضيقة، لتحقيق الحد الأدنى من الحماية أو الدعم في أوقات الأزمات.
هنا تبرز أمثلة تاريخية توضّح هذا النوع من المناورة في سياق ضعف أو قيود شديدة:
• صلح الحديبية: مناورة استراتيجية بامتياز، إذ قَبِل النبي ﷺ شروطًا ظاهرها غير متكافئ، لكنه حوّلها إلى مكسب استراتيجي طويل المدى.
• غاندي: مناورة غير عنيفة، قلبت موازين القوة الأخلاقية والسياسية لصالح الضعفاء أمام إمبراطورية عظمى.
• مولاي عبد الحفيظ: مثال على المناورة بالمماطلة واستدعاء الغطاء الشرعي لتفادي الحسم، ما جعلها انعكاسًا لتعقيد أكثر من كونها حلاً.
• محمد الخامس: مناورة بالصمود والرفض رغم الضعف، نتج عنها تعزيز الشرعية الشعبية وتسريع الاستقلال.
• الأمير عبد القادر: مناورة أخلاقية-إنسانية في فضاء منعدم القوة السياسية والعسكرية، لكنها كسبت له شرعية عالمية.
• ممرات سراييفو: مناورة إنسانية في ظل حصار عسكري خانق، وظّفت التفاوض لفتح متنفس للبقاء.
• اتفاقية الحبوب: مناورة جيوسياسية حديثة، استثمرت تركيا موقعها ومكانتها لتلعب دورًا يفوق حجمها المباشر.
التمييز بين المساحة العسكرية والمساحة السياسية الأخلاقية
1. المساحة العسكرية: قدرة على تغيير موازين القوة في ساحة النزاع مباشرة، وهي غالبًا مغلقة أمام الفاعلين الأضعف.
2. المساحة السياسية الأخلاقية: أدوات غير صدامية مثل الدبلوماسية، المساعدات الإنسانية، النفوذ الاقتصادي، أو الإعلام، يمكن تفعيلها للضغط أو التخفيف من المعاناة.
فن إكراه الخصم على التنازل رغم حالة الضعف
المناورة البنيوية الأخلاقية تمثل أحد أعقد أشكال إدارة العلاقات الإنسانية، لأنها تتأسس على معادلة تبدو متناقضة: طرف ضعيف في الظاهر يُجبر خصمه الأقوى على التنازل. وهذا التناقض لا يُحلّ إلا إذا فهمنا المناورة باعتبارها ذكاءً أخلاقيًا في إدارة البنية، لا مجرد حيلة ظرفية أو مناوشة تكتيكية.
ففي حين ترتبط القوة عادةً بالقدرة على فرض الشروط، تكشف المناورة البنيوية أن الضعف ذاته يمكن أن يتحول إلى أداة إلزام للخصم، شرط أن يُدار بوعي ومرونة. إنها، في عمقها، ليست فعلًا تقنيًا، بل خيارًا يسعى إلى إصلاح الخلل البنيوي وتحويله إلى مساحة أعدل.
عناصر المناورة البنيوية الأخلاقية
1. حالة الضعف: الضعف ليس نهاية الإمكان، بل بداية المناورة. إذ لا معنى للمناورة إلا حين يفقد الفاعل القدرة المباشرة على فرض إرادته.
2. الحركة السلسة: المناورة ليست مواجهة صلبة، بل حركة مرنة تُغيّر زوايا الموقف، تجعل الخصم يواجه مأزقه الذاتي بدل أن ينشغل بفرض قوته.
3. الإكراه غير المباشر: القوة هنا لا تأتي من فرض مباشر، بل من وضع الخصم في معادلة اضطرارية: أي أن التنازل يصبح بالنسبة إليه أهون الشرين.
4. الغاية الأخلاقية: كل مناورة بلا نية خيرية تتحول إلى مكر أو خديعة. أما المناورة الأخلاقية فمبناها على مقصد إصلاحي: التخفيف من الضرر، أو استرجاع بعض الحق، أو تقليل الظلم.
مستويات الحضور البنيوي
₋ في الأسرة: قد يختار أحد الزوجين التراجع خطوة في نقاش محتدم، لا استسلامًا بل مناورة تجبر الطرف الآخر على إعادة حساباته، مما يفتح بابًا للصلح بدل الانفجار.
₋ في المجتمع: قد تستثمر جماعة ضعيفة رمزية أخلاقية (كخطاب العدالة أو الاستشهاد بالضمير الديني) فتجعل خصمها أقوى ماديًا لكنه عاجز عن رفض خطابها أمام الناس.
₋ في المؤسسات: الموظف الضعيف قد يناور بتكتل زملائه أو بطرح بديل أخلاقي يصعب على الإدارة تجاوزه.
₋ في الدول: دولة محدودة القدرات قد تستثمر موقعها الجغرافي أو الرمزي لتُجبر قوة عظمى على قبول شروط جزئية لم تكن ترغب فيها.
آليات المناورة في حالة الضعف
1. كشف التناقض الداخلي للخصم: المناورة تضع الخصم أمام تعارض بين ما يعلنه وما يفعله، فيُضطر لتصحيح مساره حفاظًا على صورته.
2. توظيف المساحات الرمزية: مثل استدعاء خطاب العدالة، أو المعايير الأخلاقية، أو الرأي العام، وهي مساحات لا تستطيع القوة المادية إغلاقها بالكامل.
3. تغيير زاوية المواجهة: بدل الصدام المباشر، يُفرض على الخصم التعامل مع ملف جانبي أو ظرفي يتحول إلى ثغرة تُلزمه بالتنازل.
4. استثمار الضرورة: تحويل الضعف إلى ضرورة، بحيث يصبح بقاء الطرف الأقوى نفسه متوقفًا على تقديم تنازل للطرف الأضعف.
خاتمة
المناورة السياسية في المساحات المعقدة، حين تُمارس خارج إطار الأخلاق، لا تعدو أن تكون مكرًا نفعيًا أو التفافًا قصير الأمد، يترك وراءه فراغًا أكبر من أن يملأ. أما حين تُدار ببوصلة أخلاقية، فإنها تتحول إلى فن إصلاحي يوازن بين الضرورة والعدل، ويمنح الضعف قيمة استراتيجية بدل أن يظل وصمة عجز. هذا الفهم يعيد تعريف القوة: فالقوة لا تكمن فقط في فرض الشروط، بل في القدرة على تحويل اختلال البنية إلى فرصة لتقليل الظلم أو استرجاع بعض الحق. من هنا، تصبح المناورة الأخلاقية واجبًا سياسيًا وإنسانيًا، لا خيارًا تجميليًا أو ترفًا فكريًا. إنها اختبار لذكاء الفاعل في تحويل القيود إلى أدوات، ولضميره في ضبط المسار نحو عدالة ممكنة.

معركة العقل زمن الحرب لا يحتمل ترف العتاببقلم: د. الحضري لطفيفي زمن الحرب، يصبح العقل ساحة معركة لا تقل خطورة عن ميدان ا...
09/09/2025

معركة العقل
زمن الحرب لا يحتمل ترف العتاب

بقلم: د. الحضري لطفي

في زمن الحرب، يصبح العقل ساحة معركة لا تقل خطورة عن ميدان السلاح. فإما أن يتوجه بكامل طاقته نحو الفعل والنصرة، وإما أن يتشتت في جدل عقيم ولوم لا طائل منه. هنا يتجلى معنى "النسيج الزمني"، حيث لا يُسمح للحاضر أن يُختطف إلى دوامة الماضي، ولا أن يُستنزف في حسابات المستقبل قبل أوانها. إن الحاضر هو مجال العمل والاختيار، لا مسرح العتاب والخصام. ومن يستهلك وقته في اللوم، يُهدر أثمن ما يملك: فرصة التفكير في نصرة واقعية وإبداعية. ولهذا، فإن زمن الحرب لا يحتمل ترف العتاب، بل يفرض على كل عاقل أن يحشد وعيه وإرادته لما يُحدث فرقًا الآن، قبل أن يضيع العقل في معارك جانبية لا تزيد إلا من نزيف الواقع.
القاعدة الذهنية المعرفية
تقرر القاعدة المعرفية الأساسية أن العقل لا يشتغل بكفاءة على شأنين متعارضين في الوقت نفسه؛ وهي نتيجة تؤكدها مختلف مدارس علم النفس. وتُستثمر هذه القاعدة عمليًا وعلاجيًا في تحويل بؤرة الانتباه من الشيء المؤلم والضار إلى الشيء الخيّر والنافع. حين يُوجَّه الذهن إلى هدف محدد ينغمس فيه، يخفّ ضجيج الألم ويقلّ الاجترار السلبي. ويُعرَف ذلك في العمل الإجرائي بـ"تحويل البؤرة" و"مزاحمة الانتباه"، وهما آليتان تستندان إلى أن العقل طاقة واسعة قابلة للتوجيه، غير أن آليات تشغيله –كالانتباه والذاكرة العاملة– تعمل وفق مسار واحد في اللحظة نفسها؛ فإذا شُغلت بالخير والعمل انكمشت تلقائيًا مساحة اللوم والعجز.
يندرج هذا المبدأ داخل مفهوم "النسيج الزمني": يجب أن يشتغل العقل الآن بما ينفع في الحاضر، لأن الحاضر هو مجال التكليف والإسناد والجهاد والدفاع. كل تفكير يجرّ الانتباه نحو اللوم والعتاب في اللحظة القتالية يربك اتخاذ القرار ويبدّد الوقود النفسي. التفكير النسقي يطرح سؤال المصلحة في المرحلة الحالية: ما الشيء الذي يزيد من رصيد النصر أو يقلّل من كلفة الهزيمة اليوم؟
إذا حوّلنا العقل إلى مسار اللوم، فإننا نحجزه في جزء من القضية لا نحتاجه الآن، ونحرم الحاضر من قراراته العاجلة.
العقل وآلية الحصر
يصعب على العقل أن يفكّر في سؤالين متنازعين في الوقت نفسه: "ماذا أفعل لأُنصر؟" و"كيف أعاتب وأُلقي اللوم؟" اختيار السؤال الأول يفتح مسار الفعل، واختيار الثاني يجمد الحركة ويغذّي الإحساس الزائف بالغلبة الجدلية. لذا فالوقت ليس وقت العتاب؛ الزمن الذي تضعه في اللوم لن يعمل لصالح التفكير في خطط النصرة. الأولى أن تُستثمر الطاقة الذهنية في ابتكار طرائق فعّالة للدعم: داخل الوطن وخارجه، ميدانيًا وإعلاميًا وحقوقيًا وإغاثيًا واقتصاديًا ومعرفيًا وروحيًا.
طبّق ذلك بمنهج عملي واضح: اسأل نفسك سؤالًا واحدًا مركزًا: ماذا أستطيع أن أفعل لنصرة غزة؟ حدِّد فعلًا محددًا قابلًا للتنفيذ والقياس والبرهنة، ثم نفّذه فورًا ولو كان يسيرًا. أغلِق كل منافذ الجدل غير المنتج خلال فترة التنفيذ، لأن تبديل "البؤرة" أثناء العمل يرفع كُلفة القرار ويخفض جودة الأداء. بعد التنفيذ، قيِّم بسرعة: ما الذي نجح؟ ما الذي يحتاج إلى تحسين؟ أعِد التكرار بجرعات قصيرة متتابعة حتى تتحوّل الممارسة إلى عادة نافعة.
ادعم ذلك ببروتوكول قصير يسهّل الالتزام: اعتمد "تقنية السؤال الواحد" للحاضر، وحدّد "نافذة محاسبة مؤجَّلة" للماضي تُفتح كجلسة مراجعة دورية بعد انتهاء المرحلة القتالية أو عند هدنة واضحة، شريطة أن تكون المحاسبة أداة لتصحيح الواقع والتخطيط للمستقبل لا منصة لتصفية الانفعالات.
استخدم "تقنية إغلاق الضجيج" لساعتين يوميًا لإتمام مهمة نصرة واحدة حتى النهاية دون تشتيت. فعِّل "قاعدة التحويل الخيري": كلما اندفع الذهن نحو اللوم، انقلْه فورًا إلى خطوة عملية صغيرة تسند الهدف الكبير.
حين يأتي وقت اللوم فليكن بقدر ما يصحّح الحاضر ويخطّط للمستقبل. اربط العِبرة بالتحسين، لا بالشماتة؛ واجعل المراجعة سببًا لرفع الكفاءة، لا لتبرير العجز. هكذا يعمل العقل ضمن النسيج الزمني الصحيح: يَصرف الحاضر للعمل الخيِّر المؤثر، ويؤجِّل اللوم إلى لحظة مراجعة مؤطَّرة، ويستثمر الماضي للعبرة، ويترك للمستقبل ثمرة ما بُذل اليوم.
خاتمة
يُظهر تحليل النسيج الزمني في ضوء معركة العقل أن الحاضر ليس مجرد لحظة عابرة، بل هو مجال التكليف والاختبار الحقيقي، حيث تُقاس قيمة الإنسان بين الفعل والخذلان. فإذا كان الماضي قد مضى ولا يُصلح إلا بالتوبة والعبرة، والمستقبل غيبٌ لا يُدرك إلا بالتخطيط المشروع والتوكل، فإن الحاضر هو اللحظة الوحيدة التي يملك فيها العقل كامل طاقته ليختار ويعمل. إضاعة هذه اللحظة في اللَّوم والعتاب تعني شلّ الإرادة وإهدار الفرصة الوحيدة التي يمكن أن تصنع الفارق.
وهنا لا بد من التفريق: فاللوم فعل انفعالي يستنزف الحاضر في دائرة جلد الذات أو الآخرين، بينما المحاسبة فعل منهجي يُؤجَّل إلى وقته المناسب بعد انتهاء المعركة، ليُوظَّف في تصحيح الحاضر وتوجيه المستقبل. بهذا التفريق نحمي الوعي من الانغماس في دوامة الاتهام العقيم، ونُبقي على العقل حاضرًا في ميدان النصرة حيث يجب أن يكون.
العقل في جوهره طاقة واسعة، لكنه يعمل وفق آليات انتقائية لا تحتمل مسارين متنازعين في اللحظة نفسها. فإذا وُجِّه إلى البناء والعمل انكمشت مساحة الألم والعجز، وإذا انصرف إلى اللوم تعطّلت القدرة على الإبداع والفعل. ومن هنا تبرز الرؤية القرآنية والنبويّة: القدر باب للتسليم بعد التوبة، لا ذريعة للتقصير أو التهرب من المسؤولية.
إن زمن الحرب لا يحتمل ترف العتاب، بل يفرض على الوعي الجمعي أن يستثمر كل لحظة في الفعل النافع والإبداع العملي، وأن يجعل للمحاسبة موضعها المؤجَّل كأداة للتصحيح لا كسلاح للهدم. وبهذا فقط يتوازن النسيج الزمني في وعي الأمة: ماضٍ يُقرأ للعبرة، حاضرٌ يُعاش بالفعل، ومستقبلٌ يُستشرف بالتخطيط والتوكل. تلك هي معركة العقل الحقيقية.

"النسيج الزمني" والاحتجاج بالقدرغزة بين الإسناد واللومبقلم: د. لطفي الحضريمقدمةالزمن في المقاربة الفطرية ليس خطًا جامدًا...
03/09/2025

"النسيج الزمني" والاحتجاج بالقدر
غزة بين الإسناد واللوم

بقلم: د. لطفي الحضري

مقدمة
الزمن في المقاربة الفطرية ليس خطًا جامدًا يُقسَّم إلى ماضٍ وحاضرٍ ومستقبلٍ منفصلين، بل هو نسيج حيّ تتداخل خيوطه في وجدان الإنسان وسلوكه. فالماضي مجال للتوبة والعبرة، والمستقبل ميدان للتخطيط المشروع والتوكل، أما الحاضر فهو اللحظة التي تُختبر فيها الإرادة وتُقاس بها قيمة الإنسان بين الفعل والخذلان. أخطر ما يهدد هذا التوازن أن يتحول العقل من الإسناد إلى اللَّوم: فالإسناد يعني صرف الطاقات نحو العمل والنصرة وإعطاء كل جهد موضعه، بينما اللوم يحبس الوعي في دوائر اجترار تُنتج العجز عن الفعل وتُفضي إلى التفرقة.
وقد وضع ابن تيمية قاعدة حاسمة حين قال: "الاحتجاج بالقدر على الذنب باطل، وأما على المصائب فحق"؛ فالذنب لا يُبرَّر بالقدر بل يُعالج بالتوبة والعمل، أما المصيبة فيُستقبل قدرها بالرضا والتسليم دون تعطيل الواجب. وبيّن ابن القيم أن الاحتجاج بالقدر بعد التوبة تعبير عن رضا صحيح، بينما قبلها ليس سوى هروب من المسؤولية وإبطال للتكليف. وبناءً على ذلك، فإن من يحتج بالقدر اليوم لتبرير خذلان غزة أو لتسويغ الاستسلام إنما يعيد إنتاج مقولة المشركين: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا﴾ [الأنعام: 148]، حيث يُستعمل القدر غطاءً للانحراف بدل أن يكون معينًا على الرضا الحق والامتثال لعبودية الله.
الماضي: ميدان التوبة لا التبرير
الماضي لا يُستعاد بالفعل، وإنما يُستثمر بالعبرة والتوبة. من أخطأ في الماضي فباب التوبة مفتوح أمامه، أما من يصرّ على خطئه ثم يحتج بالقدر فهو غارق في الوهم. وقد حذّر النبي ﷺ من الانشغال بـ "لو" التي تفتح باب الاعتراض على القدر، فقال: "فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلتُ كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل"، (رواه مسلم).
في غزة اليوم، لومُ الماضي – من نوعية "لماذا لم تُفعل كذا" أو "لو اتُّخذ القرار الفلاني" – ليس إلا تعطيلًا للجهد الحاضر. فالتاريخ يُقرأ للعبرة لا لتجميد الأفعال في اللحظة الراهنة.
الحاضر: ميدان الإرادة والتكليف
الحاضر هو اللحظة الوحيدة التي يملك فيها الإنسان إرادة حقيقية، وفيه تُختبر مسؤوليته أمام الله وأمام قضاياه العادلة. وفي هذه اللحظة يعمل العقل وفق آليتين واضحتين:
1. تصحيح الماضي: أي إعادة معالجة ما وقع من أخطاء، روحيًا وماديًا ومعنويًا.
2. العمل الآني المرتبط بالمآل: أي توجيه الجهد الحاضر نحو فعل واقعي يأخذ في الحسبان نتائجه المستقبلية.
آليات تصحيح الماضي في الحاضر
لا يُصحح الماضي بالاجترار السلبي، وإنما عبر أفعال عملية تنطلق من الحاضر نفسه:
1. التصحيح الروحي: بالتوبة الصادقة التي تعيد صلة العبد بربه وتطهر أثر المعصية.
2. التصحيح المادي: بردّ الحقوق إلى أصحابها أو تعويض ما ضُيّع، وهو فعل يترجم العدل في الواقع.
3. التصحيح المعنوي: بالاعتذار أو إعادة الاعتبار، وهو جهد يعالج أثر الخطأ في العلاقات الإنسانية والاجتماعية.
وقد تجتمع هذه الأنواع الثلاثة في تصحيح خطأ واحد، أو يُكتفى بواحد منها بحسب طبيعة الخطأ. المهم أن يكون الحاضر مجالًا لإحياء المسؤولية لا لتكرار الانحراف.
تصحيح الماضي في سياق غزة
1. التصحيح الروحي: يبدأ بتوبة صادقة من موقف التخاذل أو الصمت أو التبرير. كثيرون اكتفوا بالحياد أو بالانغماس في همومهم الخاصة، فجاءت غزة لتوقظ ضمائرهم. التصحيح هنا ليس كلامًا نظريًا بل عودة القلب إلى الله عز وجل، واستغفارًا مقرونًا بعزم على الانخراط في النصرة. قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ [البقرة: 222]، والتوبة في هذا المقام ليست من معصية فردية فقط، بل من تقصير جماعي تجاه أمة تُباد.
2. التصحيح المادي: يُترجم في أشكال ملموسة: دعم مالي مباشر، إغاثة عاجلة، أو توجيه الموارد لمؤسسات تعمل على أرض الواقع. فمن ضيّع حقًا ماديًا في الماضي –بتخاذل عن العطاء أو بتشاغل عن النصرة– يمكنه اليوم أن يصحح ذلك بمد يد العون. وردّ الحق هنا لا يقتصر على الأفراد، بل يشمل حقوق أمة كاملة في العيش والكرامة. قال ﷺ:" من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته"، (رواه البخاري ومسلم).
3. التصحيح المعنوي: ويتحقق بأكثر من صورة:
• الاعتذار الصريح: من خطاب أو موقف سابق فيه استهانة أو تبرير لخذلان. الاعتراف بالخطأ يفتح باب الثقة ويعيد اللحمة.
• إعادة الاعتبار: من خلال إعادة صياغة الموقف العلني، بتبني خطاب صادق في الدفاع عن غزة، والمشاركة في حملات التوعية والدعم الإعلامي.
• المناصرة الرمزية: عبر الكتابة، الفن، التعليم، والتأثير في الرأي العام. فكل كلمة تصحح خطابًا سابقًا مثبطًا هي تصحيح معنوي للماضي في الحاضر.
العمل الآني المرتبط بالمآل
العمل في الحاضر ليس اندفاعًا لحظيًا ولا ترفًا جدليًا، بل هو توجيه مدروس للجهد نحو فعل واقعي محسوب بنتائجه. يندرج هذا تحت إطارين شرعيين ونفسيين متكاملين:
1. فقه المآلات الذي ينظر إلى عواقب الأفعال قبل وقوعها.
2. وفقه الأولويات الذي يقدّم الأعلى نفعًا والأقل كلفة ومفسدة.
ويشتغل هذا المبدأ على ثلاث طبقات كبرى تشكّل الهيكل النظري:
1. طبقة النية: تصحيح المقصد وضبط الاتجاه.
2. طبقة الأسباب: ترتيب الخطوات وفق الأثر والأولويات.
3. طبقة المآل: تقدير النتائج قبل الفعل لضبط القرار.
وتحت هذه الطبقات الثلاث تتوزع خمس خطوات إجرائية تمثل الترجمة العملية:
1.ضبط النية وتحديد المقصد
يبدأ العامل بتصحيح النية لتكون خالصة لله عز وجل، ثم لخدمة الحق ونصرة المظلوم. يحدد هدفًا قريبًا واضحًا: "ما الأثر القابل للقياس الذي أريد تحقيقه خلال الأيام أو الأسابيع القادمة؟"، ويستعمل صيغة "إذا – فإن" لتفعيل التنفيذ: "إذا بلغت الساعة التاسعة صباحًا فإنّي أبدأ مهمة الإسناد المحددة لمدة 90 دقيقة دون تشتيت".
2. الأخذ بالأسباب وفق فقه الأولويات
يُرتّب مسارات العمل وفق مراتب الضروريات والحاجيات والتحسينيات، فيقدَّم الأعلى أثرًا والأقرب للميدان والأقدر على التعظيم بالرافعة (شبكة/أداة/خبرة)، والأسرع إنجازًا لنتيجة قابلة للبرهنة. وتُراعى في ذلك قواعد كلية: "الضرر يُزال"، "درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح"، "اليقين لا يزول بالشك"، "سدّ الذرائع".
3. تقدير المآلات قبل الفعل
قبل التنفيذ، يجري تقييمًا سريعًا عبر خمسة أسئلة عملية:
₋ ما العائد الصافي المتوقع خلال مدة قصيرة؟
₋ ما الكلفة (وقت/مال/سمعة/مخاطر)؟
₋ ما قابلية التراجع إن ساءت النتائج؟
₋ ما قرب الأثر من الميدان والمستفيد الحقيقي؟
₋ ما الرافعة المتاحة التي تضاعف الأثر؟
يُرجَّح المسار الذي يجمع أعلى عائد وأدنى كلفة وأقرب أثر وأيسر تراجع.
4. التنفيذ المُركز (قفل الضجيج)
يثبّت العامل بؤرة الانتباه على مهمة واحدة عالية الأثر ضمن كتلة زمنية مغلقة (60–120 دقيقة)، ويغلق الضجيج (الإشعارات/المجادلات) منعًا لتشتت الانتباه. فالتحويل المتكرر للبؤرة يخفض جودة القرار ويرفع الكلفة المعرفية.
5.القياس والتقويم السريع
تنتهي المهمة بقياس واضح: ما الذي تحقق بالفعل؟ ما المؤشر الدال (أموال مُحوّلة، إغاثة وُصلت، مادة توعوية وصلت إلى جمهور واسع، شراكة وُقعت)؟ ثم يُفعل مبدأ التحسين المستمر: حذف ما لم يجدِ ومضاعفة ما أثبت فعاليته.
ضوابط نفسية وشرعية لتجنّب انحراف المسار
• يرفض العامل اللوم الآني الذي يستهلك الحاضر، ويؤجّل المحاسبة المنظمة إلى نافذة مراجعة محدّدة بعد مرحلة القتال أو الهدنة، ويجعلها أداة للتصحيح لا لتصفية الانفعال.
• يوازن بين النية الصالحة والكفاءة العملية:
1. الإخلاص شرط القَبول.
2. والإتقان شرط الجدوى.
• يقدّم سلامة المآل على حماسة اللحظة: يمنع ما يُرجَّح أن يجرّ مفسدة أكبر أو يفتح باب فُرقة أو تشهير أو مخاطرة غير لازمة.
• يلتزم خطاب الحق والعدل، ويتجنّب المبالغات والمعلومات غير المحقّقة، لأن الكذب أو التهويل يضرّ بالمآل ويقوّض الثقة.
المستقبل: بين القريب والبعيد
المستقبل في الرؤية الفطرية ذو مستويين:
1. مستقبل قريب: وهو ما يلي الحرب مباشرة. هنا يمكن مناقشة النتائج، ومحاسبة المقصّرين، ومراجعة القرارات، لكن بعد أن تُطوى صفحة القتال. فالوقت الآن ليس للحساب بل للعمل.
2. مستقبل بعيد: وهو الغيب الممتد لعشرين سنة أو أكثر. هذا لا يُحاكم بقرارات آنية ولا يُفسّر إلا بمشيئة الله. القول بأن "ط.وفان الأقصى تهور غير محسوب" أو "قرار خاطئ سيدفع ثمنه الأبناء" ليس إلا عبثًا بالزمن، لأن النتائج البعيدة تُدار بعلم الله وحده، وما على الإنسان إلا أن يعمل في حاضره ويترك ثمرته للمستقبل الذي يشاءه الله.
من خلال هذا التداخل الزمني تتضح المعادلة:
1. الماضي: عبرة وتوبة لا تبكيت ولا تبرير.
2. الحاضر: عمل وجهاد لا خذلان ولا تواكل.
3. المستقبل: تخطيط وتوكل، لا تخاذل ولا ادعاء.
خاتمة
يُدير العامل الحاضر بمنطق: نيةٌ مصحّحة، سببٌ راجح، مآلٌ مُقدَّر. يختار خطوة واحدة عالية الأثر، ينفّذها بتركيز، يقيس أثرها، ثم يكرّر مع تحسين. يعالج الماضي بالتوبة وردّ الحقوق والاعتذار، ويستشرف المستقبل بالتخطيط والتوكّل، ويصنع الفرق الآن بالإسناد العملي. بهذه الهندسة يعمل “العمل الآني المرتبط بالمآل” كجسرٍ بين الواجب الشرعي والحكمة النفسية، فيتحوّل الحاضر إلى طاقة مُنتِجة بدل أن يُستنزف في اللوم والجدل.
إن أخطر ما يصيب الوعي الجمعي أن يتحوّل القدر إلى ستار للتخاذل أو إلى ذريعة للخيانة. القدر في الرؤية الفطرية يُستعمل بعد التوبة للتسليم، وفي المصائب للتعزية، وفي المستقبل للتوكل، لكنه لا يُستعمل لإبطال واجب ولا لتبرير خذلان. ومن ثمّ فإن النسيج الزمني، حين يُفهم على ضوء الوحي، يحرر الإنسان من شلل اللوم على الماضي ومن أعذار التواكل في الحاضر ومن وساوس التنبؤ بالغيب. إنه نسيج يجعل المؤمن حاضرًا بعمله، راضيًا بماضيه، متوكلًا على ربه في مستقبله، وهو ما تحتاجه غزة اليوم: عمل في اللحظة، وصبر في المعركة، وتسليم بعد النتائج.

فقه الفسيلةينتهي العمر ويَخلُد العملبقلم: د. الحضري لطفييُعَدّ العمل في المنظور الإسلامي قيمة ذاتية لا تُختزل في نتائج آ...
27/08/2025

فقه الفسيلة
ينتهي العمر ويَخلُد العمل

بقلم: د. الحضري لطفي

يُعَدّ العمل في المنظور الإسلامي قيمة ذاتية لا تُختزل في نتائج آنية أو ظروف مثالية، بل يُقاس بصدق النية وصحة المقصد. فالفعل يكتسب معناه من كونه موجَّهًا إلى الله عز وجل، بغضّ النظر عن حجم الإنجاز أو سرعته. وقد عبّر الحديث النبوي الشريف: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها"، (البخاري)، تحت هذا المبدأ، جُعلت قيمة العمل في ذاته لا في مردوده العاجل.
وهذا هو جوهر مفهوم الإعمار في الإسلام: أن يكون الإنسان بانيًا لا هادمًا، غارسًا لا قاطعًا، مساهِمًا في استبقاء الخير حتى في ساعة النهاية. فالساعة التي يُتصوَّر فيها انهيار كل شيء هي ذاتها ساعة العمل وغرس الفسيلة. والإعمار هنا لا يقتصر على تشييد الحجر، بل يشمل بناء المعنى، وحراسة القيم، وإحياء الروح بالعمل الدائم. والرسالة التي يحملها هذا المفهوم واضحة: لا تدع اليأس يستولي عليك، ولا تنتظر الظروف لتتهيأ، فحتى عند قيام الساعة يبقى العمل الصالح والإعمار هو الفارق بين من عاش بمقتضى فلسفة الفسيلة، مستجيبًا لداعيها، ومن خرج عنها فوقع في أسر اليأس وعطّل رسالته.
وكيف يُعقل أن يُطلب من إنسان أن يغرس فسيلة – شتلة نخيل تحتاج سنين طويلة لتثمر – في لحظة قيام الساعة؟ في اللحظة التي تتزلزل فيها الأرض وتنهار الموازين؟ الجواب: لأن العمل عند الله لا يُقاس بعمر الدنيا ولا بالمردود المباشر، بل بصدق النية وصفاء المقصد. إن الفعل الحق هو ما كان متصلًا بالغاية العليا: عبادة الله تعالى.
وإذا نظرنا إلى واقعنا اليوم، نجد أن غزة أصبحت صورة من صور "الساعة" التي تواجهها الإنسانية: ساعة الحصار، وساعة الجوع، وساعة انهيار الضمير الإنساني. لكنها ليست ساعة العذر عن العمل، بل ساعة الامتحان الحقيقي: هل نغرس فسائلنا أم نقف متفرجين مكتوفي الأيدي؟
وفسائل الخير التي يمكن لأي إنسان أن يغرسها كثيرة، منها:
₋ المقاطعة الاقتصادية لمن يدعم العدوان والظلم.
₋ بذل الصدقات وتوجيهها نحو الإغاثة الإنسانية.
₋ دعم المشاريع الخيرية التي تخفف عن المتضررين.
₋ رفع الصوت بالحق في وجه الباطل وكشف جرائمه.
₋ نشر الوعي الصادق بين الناس وتفنيد الروايات المضللة.
₋ المساندة الإعلامية عبر الكلمة والصورة والموقف.
₋ المشاركة في التظاهرات دعمًا للحق ورفضًا للظلم.
₋ المشاركة القوية في الاعتصامات لتجسيد الموقف الجماعي الضاغط.
₋ رفع سقف الصوت بطلب تحرك الحكام المسلمين، كما ظهر في هتافات طنجة التي تطورت من دعوات للبرلمان والحكومة إلى نداءات صريحة للمخزن.
₋ الدعاء الصادق الذي يربط العمل بالله ويعطيه بعدًا إيمانيًا.
وأضعف الإيمان أن:
₋ أن تكسر في داخلك حاجز الخوف، فلا تدعه يعطّل ضميرك ولا يشلّ عملك.
₋ تعالج في نفسك منطق التبرير.
₋ توقف في داخلك نزعة التصهين.
₋ تتقن أي عمل تقوم به الآن.
₋ تأمل ولا تيأس.
₋ أن تبقى مرتبطًا بصور العذاب والآلام والتدمير التي تأتي من غزة: لأن "البعيد عن العين بعيد عن القلب". فإذا هجرت الصور والمشاهد بحجة الضيق أو الحساسية النفسية، فإنك تُبعد نفسك أيضًا عن الميدان. ومع البعد يتسلل الوهم بأن لا دماء تُراق، ولا جوع يفتك، ولا أطفال يُقتلون. ومع مرور الوقت قد يتبدل الموقف، وتضعف الغيرة. إن بقاءك على صلة بالصور شهادة مستمرة، تحمي قلبك من البلادة، وتثبّت بصيرتك في صف المظلوم لا الظالم.
إن "الفسيلة"، رمز لأي عمل صالح يُقدَّم، مهما كان صغيرًا. ...، لكنها عند الله أعظم من صمت العاجزين. قد لا ترى أثرها في الدنيا، لكنك تزرعها في كتابك، وتغرسها في وجدان البشرية.
وقد قرر القرآن هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُۥ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُۥ﴾ [الزلزلة: 7-8]. فالآيات تؤكد أن كل عمل، مهما صَغُر، له أثره عند الله، وأن الانسحاب من ميدان العمل لا يُعد حيادًا، بل قد ينقلب إلى موقف شرّ إذا كان استسلامًا لليأس أو تخليًا عن واجب الإعمار.
ومن هذا الأفق نفهم التوجيه النبوي الشريف في حديث الفسيلة: أن الضيق ليس مبررًا للتوقف، بل منطلق للاستمرار، وأن الأمل ليس شعورًا داخليًا فقط، بل عبادة قائمة بذاتها، وأن الطريق إلى الله لا يُبنى بالانتظار والتسويف، بل بالعمل ولو كان صغيرًا، إذ العمل الصالح في لحظة الاختبار يكشف عن صدق العبودية وعمق الانتماء إلى رسالة الحق.
والحقيقة أن الأمة اليوم بحاجة إلى فسائل تُغرس: أعمال متواصلة، مواقف صادقة، مبادرات عملية. فإن لم تجد كبير العمل، فلا تيأس من صغيره. فإن لم تستطع أن تغيّر الواقع دفعة واحدة، فلا تحقر أن تسهم بجهد متواضع، فالله لا يضيع أجر المحسنين.
قاعدة: "الخذلان أن تفعل أقل مما تستطيع".
الأمل عبودية واليأس انحراف
الأمل في التصور الإسلامي ليس مجرد حالة وجدانية، بل هو ركن من أركان العبودية الصادقة لله، لأنه يقوم على الثقة برحمته وتصديق وعده. وقد جمع القرآن بين تقرير وزن الأعمال صغيرها وكبيرها ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُۥ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُۥ﴾ [الزلزلة: 7-8]، وبين النهي الصريح عن الاستسلام لليأس ﴿وَلَا تَيْئَسُوا مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87]. وجاء الحديث النبوي الشريف عن غرس الفسيلة عند قيام الساعة ليترجم هذا المبدأ عمليًا، مؤكّدًا أن الأمل لا ينفصل عن العمل. وهكذا يتضح أن التفاؤل فعل إيماني متجسد في السلوك، بينما اليأس ليس حيادًا بل انحراف عن مسار العبودية الصحيحة.
الخلاصة:
إن حديث الفسيلة والآيات الكريمة معًا يرسمان منهجًا واضحًا: أن قيمة العمل لا تُقاس بظرفه ولا بنتيجته العاجلة، بل بمقصده وصدقه. فالمؤمن لا ينتظر لحظة مثالية ليعمل، بل يجعل من كل ساعة، حتى ساعة الفناء، مجالًا للإعمار وغرس الخير. ومن هنا يتبيّن أن الأمل عبودية، لأنه يقوم على الثقة برحمة الله، وأن اليأس انحراف، لأنه تعطيل لمسار العبودية وتبرير للانسحاب. وبين العمل والأجل تظل الفسيلة رمزًا خالدًا: تغرسها اليوم، ولو لم تُدرك ثمرتها غدًا، لتكتب بها شهادة صدقك مع الله، وتبقى أثرًا شاهدًا في الأرض والإنسانية.

الهاتف الذكي… هل يكفي العمر؟ أم أن الرشد هو المعيار؟بقلم: د. الحضري لطفيمقدمةيُطرح اليوم سؤال محوري يزداد إلحاحًا في الم...
21/08/2025

الهاتف الذكي…
هل يكفي العمر؟ أم أن الرشد هو المعيار؟

بقلم: د. الحضري لطفي

مقدمة
يُطرح اليوم سؤال محوري يزداد إلحاحًا في المجتمعات المسلمة والعالمية: في أي سنّ يمكن أن يُسمح للأطفال والمراهقين باستعمال الهاتف الذكي؟ هذا السؤال لم يعد تقنيًا بحتًا، بل أصبح سؤالًا فطريًا وشرعيًا وأخلاقيًا، لأنه يمسّ بنية التربية، ومسار النضج النفسي، وعلاقة الناشئة بالعالم الخارجي.
ومن المهم التنبيه هنا إلى أن الهاتف الذكي ليس شرًّا كله، بل هو أداة تحمل في طياتها فرصًا كبيرة للتعلم، والتواصل، وتنمية المهارات. غير أن وجه المقال الذي بين أيدينا ينصبّ على الآثار السلبية المحتملة، وعلى الإشكالية التربوية الأبرز: متى وكيف يتخذ الوالدان قرار منح الطفل الهاتف أو منعه؟
تتباين آراء المتخصصين في علم النفس والتربية والطب: فمنهم من يرى أن العمر الأدنى المقبول هو 13 سنة، بينما يذهب آخرون إلى تأجيل الاستعمال الكامل حتى 21 سنة. لكن هذا التباين يثير سؤالًا أعمق: كيف نرجّح بين أقوال هؤلاء المتخصصين؟ وعلى أي أساس نتخذ القرار الصحيح الذي يحفظ مصلحة الطفل ولا يضر بمستقبله؟
الأعمار والهواتف
تشير الأبحاث إلى أن السن الحرجة ترتبط بمرحلة الطفولة المتأخرة والمراهقة المبكرة، أي ما بين 11 و14 سنة، حيث تكون آثار امتلاك الهاتف الذكي أكثر وضوحًا. فقد أظهرت دراسة واسعة أن الحصول على الهاتف قبل سن 13 ارتبط بزيادة احتمالات مواجهة صعوبات لاحقة في الصحة النفسية مثل الأفكار الانتحارية، السلوك العدواني، ضعف التنظيم الانفعالي، وتراجع الثقة بالنفس (EurekAlert, 2024؛ Times of India, 2025). كما بينت أبحاث أخرى أن اقتناء الهاتف المبكر ارتبط بمشكلات النوم والتنمر الإلكتروني وتدهور الروابط الأسرية (EurekAlert, 2024).
تتجه بعض الحكومات والمنظمات الدولية إلى وضع حدود عمرية أكثر تحفظًا؛ فالدنمارك أوصت بعدم منح الأطفال هواتف ذكية قبل سن 13، فيما اقترحت لجنة استشارية في فرنسا تأخير الاستخدام الرقمي لأعمار لاحقة (Le Monde, 2024). أما في الولايات المتحدة فهناك مبادرات مجتمعية مثل “Wait Until 8th” التي تدعو إلى الانتظار إلى الصف الثامن قبل تسليم الهاتف الذكي، مع البدء بأجهزة أبسط يمكن التحكم فيها (Child Mind Institute, n.d.). كما تشير توصيات تربوية أخرى إلى أن دخول الأطفال إلى منصات التواصل الاجتماعي ينبغي أن يتأخر إلى ما بعد 16 عامًا (Times of India, 2025).
وتظهر بيانات جامعة ستانفورد أن المتوسط العالمي لاقتناء أول هاتف هو ما بين 12-13 سنة، دون وجود ارتباط قاطع بين العمر وحده وبين اضطرابات الصحة النفسية، مما يعزز الفكرة القائلة بأن عامل النضج الشخصي والوعي الاجتماعي أهم من عامل السن الزمني وحده (Stanford Medicine, 2022). ولذلك، يميل أغلب المختصين إلى اعتبار أن القرار لا ينبغي أن يستند إلى رقم مطلق مثل 21 عامًا، بل إلى درجة استعداد الطفل وقدرته على تحمل المسؤولية وإدراكه للمخاطر المرتبطة بالاستعمال غير المنضبط.
الرشد القرآني
حين نتأمل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: 6]، يتبيّن أن القرآن الكريم جعل الرشد معيارًا أساسًا للأهلية، لا مجرد بلوغ العمر الزمني. فالعمر، في حدّ ذاته، لا يفسّر بالضرورة معنى المسؤولية، ولا يقتضي اكتمال الوعي الأخلاقي أو القدرة على تحمّل التبعات. ومن هنا تنشأ الإشكالية: الخلط بين مجرد التغير البيولوجي المرتبط بالعمر، وبين تحقق الرشد كوعي سلوكي وأخلاقي يترتب عليه استحقاق الأهلية.
الرشد في التصور القرآني أوسع بكثير؛ فهو حصيلة ثلاثية:
1. وعي بالواجب.
2. قدرة على الاختيار.
3. الثقة في أوامر الوالدين.
4. استعداد لتحمّل النتائج.
لذلك قد يكون الشاب في الخامسة عشرة قائدًا إذا آنسنا منه رشدًا، بينما قد يُمنع رجل في الثلاثين من إدارة ماله إذا فقد رُشدَه.
وللتاريخ الإسلامي شواهد تؤكد هذا المعنى؛ فقد وُلِّي أسامة بن زيد رضي الله عنه قيادة جيش فيه كبار الصحابة وهو في نحو السابعة عشرة، ولم يُنظر إلى عمره بقدر ما اعتُبر رشده وكفاءته. كما شارك علي بن أبي طالب رضي الله عنه في ميادين العلم والقضاء والجهاد في سن مبكرة، وكان مرجعًا في الفتيا وهو شاب. وكذلك عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، لُقِّب بحَبْر الأمة وترجمان القرآن، وقد جلس للتفسير والتعليم وهو في مقتبل العمر. وهناك أيضًا محمد الفاتح الذي تولى الحكم وهو في الثانية والعشرين، لكنه فتح القسطنطينية وهو لا يزال في ريعان شبابه، محققًا بشارة النبي ﷺ. هذه النماذج تكشف أن الرشد ليس رقمًا في الهُوية، بل طاقة ووعي واستعداد للتكليف.
الرشد وضبط الرغبات
في مرحلة المراهقة، لا يكفي أن نقيس النضج بامتلاك الهاتف أو عدمه، بل الأهم هو مدى استجابة الأبناء لتوجيه الوالدين. فحين يطلب الوالدان من المراهق أن يضع الهاتف بين أيديهما في ساعة محددة، كالحادية والعشرين مساءً، فإن طاعته تمثل اختبارًا حقيقيًا لرشده. أمّا إذا رفض الامتثال، فذلك قد يستوجب المنع المؤقت أو النهائي، لا عقابًا بقدر ما هو تدريب على تنمية القدرة على إدارة الشهوة والرغبة.
وهنا يبرز الفرق الجوهري بين "الشخصية الرغائبية"، التي تترك نفسها أسيرة الأهواء والشهوات دون ضابط، وبين الرشد القرآني الذي يعني التحكم في الرغبات وضبطها وفق ميزان الوعي والتكليف. "الشخصية الرغائبية" تنقاد وراء اللحظة، أما الرشد فيمثل القدرة على إرجاء الإشباع، وضبط الرغبة، وتحويلها إلى طاقة بنّاءة. وهذا هو منتهى التربية: أن نعلّم أبناءنا أن الحرية الحقيقية لا تكون في إطلاق الرغبات، بل في القدرة على تقييدها حيث يجب، وتوظيفها فيما ينفع.
ويجسد ذلك ما وقع في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين رفضت فتاة خلط اللبن بالماء، قائلة لأمها: "إن كان عمر لا يرانا، فإن الله يرانا". هذا الموقف البسيط كشف عن شخصية راشدة اختارت ضبط الرغبة في الكسب السهل، وقدّمت وازع الضمير على هوى النفس. وهكذا تتجاوز التربية دور الرقابة الخارجية إلى بناء رقابة داخلية تعصم المراهق من الانزلاق، وتجعله يعيش يقينًا دائمًا بأن الله مطّلع على السر والعلن.
مسلمة: "الرغبة بلا ضابط هي عبودية، وضبطها هو عين الحرية".
خاتمة
التوصيات الأكثر شيوعًا تركز على سن 13–14 عامًا مع مراقبة الاستخدام، مع الإقرار بأن معيار النضج النفسي والاجتماعي هو الحاسم. الهاتف الذكي في جوهره وسيلة، وليس غاية. منحه لا يُقاس بالسن وحده، بل بمقدار ما نأنس من رشدٍ في نفوس أبنائنا. والتربية الإسلامية تعطي ميزانًا خالدًا: الرشد معيار الأهلية. بذلك نحقق التوازن بين معطيات العلم الحديث، وتجربة التاريخ، والهدي القرآني، ونبني ناشئة قادرة على أن تجعل من الهاتف وسيلة بناء لا وسيلة هدم.

Address

Rabat

Alerts

Be the first to know and let us send you an email when الدكتور لطفي الحضري dr lotfi el hadri posts news and promotions. Your email address will not be used for any other purpose, and you can unsubscribe at any time.

Contact The Practice

Send a message to الدكتور لطفي الحضري dr lotfi el hadri:

Share

Share on Facebook Share on Twitter Share on LinkedIn
Share on Pinterest Share on Reddit Share via Email
Share on WhatsApp Share on Instagram Share on Telegram

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته ينظم مركز علم النفس الفطري للدراسات و الاستشارات و التدريب التنموي :دورة تدريبية في :

https://goo.gl/E25qEP