
16/09/2025
المناورة السياسية في المساحات المعقدة
بقلم: د. الحضري لطفي
المقدمة
في عالم السياسة الدولية، نادرًا ما تُصنع القرارات في فراغ عقلاني أو بيئة مثالية، بل غالبًا ما تنبثق من تفاعلات معقدة تتقاطع فيها الضغوط المؤسسية مع المصالح المتعارضة والحسابات المتشابكة. وفي مثل هذه البيئات المقيّدة، يبرز مفهوم المناورة البنيوية باعتباره آلية لفهم كيفية تحرك الفاعلين حين يجدون أنفسهم في موقع ضعف أو تحت قيود خانقة.
والمناورة البنيوية، في جوهرها، ليست فعلًا سياديًا مطلقًا ولا مجرد تفاوض تقليدي أو صمود سلبي، بل هي حركة مرنة يُدير بها الفاعل توازن العلاقة بما يضطر الطرف الآخر إلى القبول بخيار لم يكن راغبًا فيه. إنها فن تحويل الاختلال إلى فرصة، ودفع الخصم إلى التنازل من داخل مأزقه الذاتي، لا من خلال فرض مباشر للقوة.
واختيار لفظ البنيوية مقصود لأنه يوسّع المفهوم من المجال السياسي إلى كل البُنى الإنسانية: الأسرية، الاجتماعية، المؤسسية، والدولية.
إن المناورة ليست التفافًا عابرًا، بل آلية راسخة في صميم البنية، تتحرك حيثما وُجدت علاقة غير متكافئة، تسعى – في جوهرها الأخلاقي – إلى استعادة قدر من التوازن والعدل الممكن.
وانطلاقًا من هذا الإطار، نقترح في هذا المقال مقاربة المناورة السياسية الأخلاقية، باعتبارها استجابة لمسؤولية إنسانية تتجاوز منطق المصلحة الذاتية المباشرة، خصوصًا في الحالة الفلسطينية الراهنة حيث تفرض الكارثة الإنسانية في غزة أسئلة ملحة حول غياب المبادرات العربية:
₋ هل توجد إرادة سياسية حقيقية لتفعيل أدوات المناورة المتاحة؟
₋ أم أن الامتناع بات موقفًا سياسيًا مستقرًا لا عجزًا ظرفيًا؟
ذكاء في إدارة الضعف:
الخيار الضروري: "التغابن"
من الخطأ اختزال المناورة السياسية الأخلاقية في بعدها القيمي المجرد أو اعتبارها مسألة تقديرية تتعلّق بما هو "أفضل". بل يجب النظر إليها – في بعض السياقات – كخيار "تغابني ضروري"، أي أنها ترتبط بمبدأ قرآني صريح، ورد في قوله تعالى: ﴿ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾ (التغابن: 9).
وقد فسّر علماء التفسير هذه الآية على النحو التالي:
₋ قال الطبري (ت. 310هـ): "التغابن: أن يُغبن أهل الجنة أهل النار"، أي أن تظهر في الآخرة خسارة مَن فرّطوا في دنياهم، مقابل ربح من استثمروا فيها ضمن طاعة الله عز وجل.
₋ وقال ابن عاشور (ت. 1393هـ): "أُطلق التغابن على يوم القيامة مجازًا؛ لأنه يظهر فيه غُبن الكافرين والمفرّطين، حيث تبين خُسرتهم أمام فوز المؤمنين".
بناءً على هذه المعاني، يصبح ترك المناورة الممكنة في القضايا الإنسانية تفريطًا له تبعات أخروية، لأن الله عز وجل سيحاسب الفاعل على ما كان في يده ولم يستعمله.
استثمار المساحات المتاحة
المناورة السياسية الأخلاقية ليست عملًا عسكريًا مباشرًا، بل توظيف للمساحات السياسية والاقتصادية والإعلامية المتبقية، مهما كانت ضيقة، لتحقيق الحد الأدنى من الحماية أو الدعم في أوقات الأزمات.
هنا تبرز أمثلة تاريخية توضّح هذا النوع من المناورة في سياق ضعف أو قيود شديدة:
• صلح الحديبية: مناورة استراتيجية بامتياز، إذ قَبِل النبي ﷺ شروطًا ظاهرها غير متكافئ، لكنه حوّلها إلى مكسب استراتيجي طويل المدى.
• غاندي: مناورة غير عنيفة، قلبت موازين القوة الأخلاقية والسياسية لصالح الضعفاء أمام إمبراطورية عظمى.
• مولاي عبد الحفيظ: مثال على المناورة بالمماطلة واستدعاء الغطاء الشرعي لتفادي الحسم، ما جعلها انعكاسًا لتعقيد أكثر من كونها حلاً.
• محمد الخامس: مناورة بالصمود والرفض رغم الضعف، نتج عنها تعزيز الشرعية الشعبية وتسريع الاستقلال.
• الأمير عبد القادر: مناورة أخلاقية-إنسانية في فضاء منعدم القوة السياسية والعسكرية، لكنها كسبت له شرعية عالمية.
• ممرات سراييفو: مناورة إنسانية في ظل حصار عسكري خانق، وظّفت التفاوض لفتح متنفس للبقاء.
• اتفاقية الحبوب: مناورة جيوسياسية حديثة، استثمرت تركيا موقعها ومكانتها لتلعب دورًا يفوق حجمها المباشر.
التمييز بين المساحة العسكرية والمساحة السياسية الأخلاقية
1. المساحة العسكرية: قدرة على تغيير موازين القوة في ساحة النزاع مباشرة، وهي غالبًا مغلقة أمام الفاعلين الأضعف.
2. المساحة السياسية الأخلاقية: أدوات غير صدامية مثل الدبلوماسية، المساعدات الإنسانية، النفوذ الاقتصادي، أو الإعلام، يمكن تفعيلها للضغط أو التخفيف من المعاناة.
فن إكراه الخصم على التنازل رغم حالة الضعف
المناورة البنيوية الأخلاقية تمثل أحد أعقد أشكال إدارة العلاقات الإنسانية، لأنها تتأسس على معادلة تبدو متناقضة: طرف ضعيف في الظاهر يُجبر خصمه الأقوى على التنازل. وهذا التناقض لا يُحلّ إلا إذا فهمنا المناورة باعتبارها ذكاءً أخلاقيًا في إدارة البنية، لا مجرد حيلة ظرفية أو مناوشة تكتيكية.
ففي حين ترتبط القوة عادةً بالقدرة على فرض الشروط، تكشف المناورة البنيوية أن الضعف ذاته يمكن أن يتحول إلى أداة إلزام للخصم، شرط أن يُدار بوعي ومرونة. إنها، في عمقها، ليست فعلًا تقنيًا، بل خيارًا يسعى إلى إصلاح الخلل البنيوي وتحويله إلى مساحة أعدل.
عناصر المناورة البنيوية الأخلاقية
1. حالة الضعف: الضعف ليس نهاية الإمكان، بل بداية المناورة. إذ لا معنى للمناورة إلا حين يفقد الفاعل القدرة المباشرة على فرض إرادته.
2. الحركة السلسة: المناورة ليست مواجهة صلبة، بل حركة مرنة تُغيّر زوايا الموقف، تجعل الخصم يواجه مأزقه الذاتي بدل أن ينشغل بفرض قوته.
3. الإكراه غير المباشر: القوة هنا لا تأتي من فرض مباشر، بل من وضع الخصم في معادلة اضطرارية: أي أن التنازل يصبح بالنسبة إليه أهون الشرين.
4. الغاية الأخلاقية: كل مناورة بلا نية خيرية تتحول إلى مكر أو خديعة. أما المناورة الأخلاقية فمبناها على مقصد إصلاحي: التخفيف من الضرر، أو استرجاع بعض الحق، أو تقليل الظلم.
مستويات الحضور البنيوي
₋ في الأسرة: قد يختار أحد الزوجين التراجع خطوة في نقاش محتدم، لا استسلامًا بل مناورة تجبر الطرف الآخر على إعادة حساباته، مما يفتح بابًا للصلح بدل الانفجار.
₋ في المجتمع: قد تستثمر جماعة ضعيفة رمزية أخلاقية (كخطاب العدالة أو الاستشهاد بالضمير الديني) فتجعل خصمها أقوى ماديًا لكنه عاجز عن رفض خطابها أمام الناس.
₋ في المؤسسات: الموظف الضعيف قد يناور بتكتل زملائه أو بطرح بديل أخلاقي يصعب على الإدارة تجاوزه.
₋ في الدول: دولة محدودة القدرات قد تستثمر موقعها الجغرافي أو الرمزي لتُجبر قوة عظمى على قبول شروط جزئية لم تكن ترغب فيها.
آليات المناورة في حالة الضعف
1. كشف التناقض الداخلي للخصم: المناورة تضع الخصم أمام تعارض بين ما يعلنه وما يفعله، فيُضطر لتصحيح مساره حفاظًا على صورته.
2. توظيف المساحات الرمزية: مثل استدعاء خطاب العدالة، أو المعايير الأخلاقية، أو الرأي العام، وهي مساحات لا تستطيع القوة المادية إغلاقها بالكامل.
3. تغيير زاوية المواجهة: بدل الصدام المباشر، يُفرض على الخصم التعامل مع ملف جانبي أو ظرفي يتحول إلى ثغرة تُلزمه بالتنازل.
4. استثمار الضرورة: تحويل الضعف إلى ضرورة، بحيث يصبح بقاء الطرف الأقوى نفسه متوقفًا على تقديم تنازل للطرف الأضعف.
خاتمة
المناورة السياسية في المساحات المعقدة، حين تُمارس خارج إطار الأخلاق، لا تعدو أن تكون مكرًا نفعيًا أو التفافًا قصير الأمد، يترك وراءه فراغًا أكبر من أن يملأ. أما حين تُدار ببوصلة أخلاقية، فإنها تتحول إلى فن إصلاحي يوازن بين الضرورة والعدل، ويمنح الضعف قيمة استراتيجية بدل أن يظل وصمة عجز. هذا الفهم يعيد تعريف القوة: فالقوة لا تكمن فقط في فرض الشروط، بل في القدرة على تحويل اختلال البنية إلى فرصة لتقليل الظلم أو استرجاع بعض الحق. من هنا، تصبح المناورة الأخلاقية واجبًا سياسيًا وإنسانيًا، لا خيارًا تجميليًا أو ترفًا فكريًا. إنها اختبار لذكاء الفاعل في تحويل القيود إلى أدوات، ولضميره في ضبط المسار نحو عدالة ممكنة.