
16/09/2025
لقد رحل ابي وسندي
سيرة أبي…
وُلد أبي في عام النكبة، في زمنٍ كانت الأرض فيه تئنّ من ثِقل النزوح والفقد والفقر. في طفولته المبكّرة عاش اليُتم مرتين: يتيم الحنان، ويتيم الاستقرار. لم يَعرف الدلال ولا الراحة، بل عَرف مبكرًا كيف يكون رجلًا وهو ما يزال طفلًا.
حمل همّ أبيه الكبير، فكان له الساعد والعضد، وحرَم نفسه من التعليم ليكون سندًا لعائلته. وفي سنّ صغيرة شقّ طريق الرزق بيدٍ عارية، لم يملك إلا العزم والإرادة، فأسس تجارته من لا شيء. وعندما كبر إخوته كانوا له السند والشركاء، فكوّن معهم قوةً وعزيمة صاغت ملامح رحلة الكفاح.
كان الأب الثاني لإخوته وأخواته، يعوضهم فقدان أبيهم الذي رحل مبكرًا. جمع في شخصيته الحنان والحزم، فكان مأوى القلوب الضعيفة، وملاذًا في الشدائد، ومثالًا للأخ الذي يتحول إلى أب.
لم يَترك انشغاله في التجارة أن يَحرم أبناءه من ما حُرم هو منه. فقد زرع فيهم حب العلم، وكان يردد أن “التعليم رأس المال الحقيقي”. وبفضل كفاحه وسهره ودموعه، تخرّج أبناؤه أطباء ومهندسون ومحامون وأساتذة وصيادلة. وكان نجاحهم هو ثمرة جهده، وشهادة على صبره وإصراره.
لم يكن كثير الكلام؛ قليل الحروف، عميق المعنى. يمشي بصمت، وإذا نطق أوجز، وإذا تكلم ألقى الحكمة. وكان حضوره يُغني عن حديث طويل.
في عمله كان مدنيًّا بسيطًا، وفي مجلسه عشائريًّا شامخًا. لم يكن لبسه عاديًا، بل كان موشحًا بشماغه وكوفيته، يجمع بهما رمزية الضفتين ووحدة الهوية، يرفع الرأس بكرامة وشموخ.
ولم تشغله تجارته ولا حياته الخاصة عن واجبه الاجتماعي والوطني. كان حاضرًا في قضايا وطنه، وفي مجالس الصلح الاجتماعي والثقافي، دائمًا في المقدمة. ترك من الأصدقاء رجالًا يذكرونه بالخير، ويشهدون له بالوفاء والصدق.
وكان محبًا لعشيرته، ومحِبًا للوطن، يغرس فينا بذور الوفاء والانتماء كما يغرس الأرض زرعه وبذوره، وكافلًا لليتيم وواصلًا للأرحام، يمد يده لكل محتاج، ويزرع الخير في كل مكان وطريق.
كان ملازمًا للمسجد، محافظًا على الصلاة والصيام وحجّه وعبادته. زاهدًا متواضعًا، متعبدًا، لا يُرى إلا على طهارة وخشوع.
تزوج من امرأة صالحة كانت له السند والرفيقة والنبع الصافي، أحبته وأحبها، رافقته في مشقته وكفاحه، وكانت له المشورة والدفء. وفي سنوات المرض القاسية، لم تفارقه لحظة، تبث الأمل في قلوبنا أنه سيقوم، سيقوى، سيعود كما كان. وعندما جاء قدر الله، وأسلم الروح، لم تصدق فراقه؛ صرخت: “إنه حي، لم يمت! جسده دافئ لم يبرد بعد!”، فكانت صرختها طعنة في قلوبنا جميعًا، جعلت الحزن أعمق والجراح أوسع.
أبي…
لم تكن رجلًا عاديًا. كنت القوة في صمتك، والعزيمة في صبرك، والحكمة في قولك، والرحمة في أفعالك. جمعت فيك الأب والأخ، التاجر والمصلح، العشائري والمدني، العابد والإنسان، وكافل اليتيم وواصل الأرحام، ومحب الوطن وعشيرته في كل عملك وزرعك وفلاحتك.
رحلت… لكنك باقٍ فينا.
في كل خُطوة نخطوها،
في كل نجاح نقطفه،
في كل دعاء نرفعه.
إرثك خالد، وسيرتك عطرة، وأثرك لا يمحوه الزمن.