03/12/2025
رواية: "دواء الضمير"
الفصل الأول: المدينة التي تنام على الألم
في مدينة اسمها "مارسيرا"، حيث الأبراج الزجاجية تعكس أشعة الشمس مثل السراب، كانت شركة "نيوفارما العالمية" تمثل قمة ما وصل إليه البشر من علوم... وطمع. لا يكاد يخلو شارع من لوحاتها الإعلانية، تَعِدُ بالصحة، بالراحة، وبحياة أفضل. لكن الحقيقة كانت أكثر مرارة من أي حبة دواء صنعتها.
كان الدكتور سامي الكرمي، عالم الأدوية والباحث في قسم التطوير السريري، قد أمضى عشر سنوات يعمل في مختبرات نيوفارما. هادئ، نزيه، حالم، لكنه مكسور من الداخل. كان يرى بأم عينيه كيف يتم تمويل الأبحاث التي تُدرّ أرباحًا، بينما تُهمل الأمراض النادرة التي تفتك بالبسطاء.
في أحد الأيام، وبينما كان يتابع حالات سريرية نادرة لمرض عصبي يصيب الأطفال ويؤدي إلى شلل كامل خلال سنوات قليلة، لمح سامي بصيص أمل في إحدى التجارب. توليفة دوائية من مركبين مهملين، أظهرت نتائج مذهلة على الفئران.
سهر ليالٍ طويلة، أجرى التجارب، كتب التقارير، وأعدّ العرض التقديمي. دخل إلى غرفة الاجتماعات بثقة لأول مرة منذ سنوات، وشرح النتائج لإدارة الشركة. كان الحضور من كبار التنفيذيين، يرتدون بذلات داكنة، يمسكون فناجين القهوة كأنهم يمسكون مصير العالَم.
قال لهم: "هذا الدواء قادر على إبطاء تطور المرض بنسبة 80%. إنقاذ آلاف الأطفال ممكن الآن."
سكت الجميع. تبادلوا النظرات. ثم تحدث السيد مروان العتيبي، المدير الإقليمي للشرق الأوسط:
"وهل تعلم كم عدد الأطفال المصابين بهذا المرض في السوق العربي؟ أقل من 2000 حالة. لا جدوى مالية."
تدخل المدير المالي قائلاً: "تكلفة التسويق والإنتاج لن تعود بمردود. والأهم، لا يمكننا بيعه بسعر مرتفع."
شعر سامي كأن أحدهم سكب عليه دلواً من الماء البارد. قال بتردد: "لكن... نحن شركة أدوية. أليس الهدف هو العلاج؟"
ضحك أحد التنفيذيين وقال: "نحن شركة، يا دكتور سامي. قبل أن نكون دواء، نحن سوق."
في تلك الليلة، لم ينم سامي. قلبه كان يصرخ. في داخله، كان صوت صغير يقول له: "العلم ليس للبيع."
وبدأ يخطط.
________________________________________
الفصل الثاني: القرار
في الصباح التالي، حضر سامي إلى المختبر كالمعتاد، لكن عينيه لم تعودا كالسابق. لم يعد الرجل الذي يراقب بصمت. هذه المرة، كان يراقب بنية الهجوم.
فتح خزانة حفظ العينات، وأعاد فحص نتائج التجارب. كانت النتائج واضحة. فعالة. مستقرّة. آمنة. وفي درج مكتبه، كان هناك قرص صلب خارجي، صغير الحجم، ضخم القيمة. بدأ بنقل الملفات السرية: التحاليل، صور الخلايا، جداول الاستجابة، خطة التصنيع الأولية.
لم يكن قراره سهلاً، لكنه لم يرَ بديلًا. لن يسمح بوأد علاج فقط لأن السوق لا يريده. قرر أن يُسرّب المعلومات إلى منظمة طبية مستقلة في الهند، حيث تصنع بعض المختبرات أدوية جنيسة بأسعار زهيدة.
في كل لحظة كان يشعر أن الكاميرات ترصده، أن الأمن سيدخل فجأة. لكن لم يحدث شيء.
وفي المساء، غادر المبنى. كان يحمل القرص الصلب في جيبه الداخلي، ومعه شعور بأنه قد يكون فقد كل شيء... أو بدأ كل شيء.
وصل إلى منزله، أطفأ الأنوار، وفتح حاسوبه الشخصي. أرسل رسالة مشفّرة إلى صديق قديم، دكتور راجيف، يعمل في مختبر خيري بمدينة بنغالور.
كتب: "لديّ دواء قد ينقذ أرواحًا. هل أنت مستعد لتحمّل الخطر؟"
وجاء الرد خلال دقائق: "أرسل كل شيء. سنبدأ فورًا."
________________________________________
الفصل الثالث: المطاردة
بعد أسبوعين، بدأت الدوائر تدور.
اجتمع قسم الأمن السيبراني في نيوفارما على عجل بعد اكتشاف نشاط غير معتاد في شبكة الشركة. وصل تقرير إلى مكتب المدير التنفيذي يشير إلى أن بيانات تجريبية قد تم نسخها من أحد الحواسيب الرئيسية في قسم البحث السريري. الاسم المرتبط بالنشاط؟ د. سامي الكرمي.
في ذات الوقت، بدأت صور المستندات تتسرب إلى المنتديات الطبية المفتوحة، تُظهر نجاح الدواء في التجارب الحيوانية. لم تُذكر نيوفارما، لكن البصمة العلمية واضحة. وأحدهم في الشركة لاحظ.
استُدعي سامي إلى تحقيق داخلي. كان يجلس في غرفة صغيرة ذات جدران رمادية، أمام لجنة قانونية.
قال المحقق: "هل قمت بنقل بيانات حساسة دون إذن رسمي؟"
رد سامي بهدوء: "نعم."
اندهش الجميع من صراحته. قال أحدهم غاضبًا: "هل تدرك عواقب هذا؟ قد تُسجن، تُمنع من ممارسة المهنة، وتُشطب من جميع الهيئات العلمية."
قال سامي بصوت حازم: "إذا كان الثمن هو حياة الأطفال، فأنا مستعد لدفعه."
في الخارج، كانت القصة تنتشر. بعض الصحف الإلكترونية التقطت التسريبات. بدأت الحملات تنقسم: البعض يرى أن سامي بطل إنساني، وآخرون يتهمونه بسرقة ملكية فكرية.
أما في بنغالور، فكان الدكتور راجيف وفريقه قد بدأوا بالفعل التجارب السريرية على أول مجموعة من الأطفال. وكانت النتائج... مذهلة.
________________________________________
الفصل الرابع: المحاكمة
بعد ضغوط من مجلس إدارة نيوفارما والمستثمرين، تم تحويل قضية سامي إلى محكمة فدرالية مختصة بقضايا تسريب المعلومات والملكية الفكرية. القضية أصبحت قضية رأي عام.
في صباح يوم المحاكمة، تجمّع عشرات المتظاهرين أمام المحكمة، يحملون لافتات كُتب عليها: "أنقذ أطفالنا، لا تسجن ضميرًا" و"العلم للإنسان، لا للأسواق".
دخل سامي القاعة مرتديًا بذلة رمادية، وجهه شاحب لكنه ثابت. في الصف الأول جلست أمه العجوز، وعينها تلمع بفخر وخوف.
بدأ الادعاء بكلمة قوية، يشرح كيف أن سامي خرق قوانين حماية البيانات وسرّب معلومات خطيرة. ثم جاء دور الدفاع.
وقف المحامي، وقال: "سيدي القاضي، هل هناك قانون يجرّم إنقاذ الأرواح؟ موكلي لم يسرق براءة اختراع ليبيعها، بل كشف عن علاج كانت الشركة تنوي دفنه حفاظًا على أرباحها. نحن لا نحاكم خرقًا تقنيًا، بل نحاكم الضمير."
ثم، بشكل غير متوقع، عرض الدفاع تسجيلًا لشهادة من أحد آباء الأطفال الذين تلقوا العلاج في الهند. ظهر على الشاشة رجل هندي بسيط، يحمل طفلته المبتسمة، وقال بصوت مكسور: "ابنتي كانت تموت، واليوم تركض بقدميها. شكرًا لمن أعاد لنا الحياة."
ساد الصمت القاعة. بعض أعضاء