02/09/2025
العلاقة بين هرمون السيروتونين والقلق: قراءة نفسية - عصبية
العلاقة بين هرمون السيروتونين والقلق: قراءة نفسية – عصبية
يُعد السيروتونين (Serotonin – 5-HT) واحدًا من أهم الناقلات العصبية التي تلعب دورًا محوريًا في تنظيم الوظائف الانفعالية والمعرفية والجسمية. فقد أظهرت البحوث في علم الأعصاب أن السيروتونين ليس مجرد مادة كيميائية ناقلة، بل هو نظام عصبي متكامل يشارك في ضبط المزاج، القلق، النوم، الشهية، والسلوك الاجتماعي (Müller & Jacobs, 2010).
السيروتونين والقلق
من منظور عصبي–نفسي، يرتبط انخفاض مستويات السيروتونين أو خلل في مستقبلاته بزيادة القابلية للقلق. يشير Joseph LeDoux، أحد أبرز الباحثين في علم الأعصاب العاطفي، إلى أن دوائر الخوف في الدماغ – خصوصًا اللوزة الدماغية (Amygdala) – تُنشَّط بشكل مفرط عند ضعف تثبيط السيروتونين، مما يؤدي إلى تضخيم الاستجابة القلِقة (LeDoux, 2015).
دراسة حديثة على نماذج حيوانية نشرت في Nature Communications (2023) أوضحت أن تنشيط مسارات السيروتونين في النواة المتكئة (Nucleus Accumbens) واللوزة الدماغية قد يزيد أو يقلل من القلق حسب نوع المستقبلات (5-HT1A، 5-HT2A، 5-HT3)، ما يفسر اختلاف الاستجابات الفردية للأدوية المضادة للاكتئاب والقلق.
تأثير نقص السيروتونين على الحالة النفسية والجسمية
انخفاض السيروتونين لا يؤدي فقط إلى اضطراب القلق، بل يشمل طيفًا من الأعراض النفسية–الجسمية:
الاكتئاب واضطرابات المزاج: ربطت العديد من الدراسات بين قلة نشاط السيروتونين في قشرة الفص الجبهي والاكتئاب (Cowen & Browning, 2015).
الوسواس القهري (OCD): خلل في مسار السيروتونين الجبهي-القاعدي يرتبط بالأفكار التسلطية والسلوكيات القهرية.
اضطرابات النوم: السيروتونين يعد سلَفًا للميلاتونين، وبالتالي فإن نقصه يؤدي إلى أرق واضطرابات في دورة النوم–الاستيقاظ.
الوظائف المعرفية: ضعف في الانتباه، الذاكرة العاملة، والتعلم، وقد يزيد خطر الخرف المبكر عند كبار السن.
الأعراض الجسدية: مثل اضطرابات الجهاز الهضمي (باعتبار أن 90% من السيروتونين يُنتَج في الأمعاء)، إضافةً إلى تأثيره على نظام الغدد الصماء والدورة الدموية.
مؤشرات انخفاض السيروتونين
الأفراد الذين يعانون من عجز في نظام السيروتونين قد يُظهرون:
حزن عميق ويأس مستمر.
قلق مزمن أو نوبات هلع.
أفكار وسواسية أو اندفاعية.
تغيرات في الرغبة الجنسية.
ضعف التركيز والذاكرة.
أعراض ذهانية محتملة مثل الهلوسة والأوهام، وهو ما قد يزيد خطر الإصابة بالفصام عند بعض الفئات.
تشخيص الخلل في السيروتونين
رغم وجود اختبارات دم لقياس مستويات السيروتونين، إلا أن الأطباء النفسيين والأعصاب يؤكدون أن هذه الفحوصات لا تعكس بدقة نشاط السيروتونين الدماغي. يوضح Philip Cowen (أستاذ الطب النفسي بجامعة أوكسفورد) أن "القياسات المحيطية للسيروتونين لا تمثل بدقة نشاطه المركزي"، لذا يعتمد التشخيص على التقييم السريري والأعراض، إلى جانب استبعاد الأسباب العضوية والهرمونية الأخرى.
التدخل العلاجي
الأدوية: مضادات الاكتئاب من نوع مثبطات استرجاع السيروتونين الانتقائية SSRIs (مثل: Fluoxetine، Sertraline) تعمل على زيادة توافر السيروتونين في المشابك العصبية، ما يقلل من أعراض القلق والاكتئاب.
العلاج النفسي: العلاج المعرفي السلوكي (CBT) ثبت فعاليته في تعديل أنماط التفكير المولِّدة للقلق مع دعم الدواء.
التدخلات غير الدوائية: النشاط البدني المنتظم، النظام الغذائي الغني بالتربتوفان (مثل: الحليب، البيض، الجوز)، والتعرض للضوء الطبيعي، كلها تساهم في تحسين توازن السيروتونين.
الأبحاث المستقبلية: هناك توجه نحو العلاج الشخصي (Personalized Psychiatry) عبر فهم التباينات الجينية لمستقبلات السيروتونين (5-HTTLPR polymorphism).
الخلاصة
يتضح أن السيروتونين يمثل حجر الزاوية في فهم العلاقة بين الدماغ، المزاج، والقلق. غير أن الاعتماد على "نظرية السيروتونين وحدها" لتفسير الاضطرابات النفسية أمر مبسط، إذ أن القلق والاكتئاب ينشآن عن تداخل معقد بين العوامل العصبية–البيولوجية، الوراثية، والبيئية–الاجتماعية. لذلك يظل التوجه متعدد الأبعاد (Biopsychosocial Approach) هو الأكثر شمولية في فهم هذه الظواهر.