
04/03/2025
لعنة القوة… حين لا يُسمح لك أن تكون ضعيفًا
تخيل أن تكون بحاجة إلى احتواء، لكن الجميع يراك مكتفيًا. أن تتألم، لكن لا أحد يأخذ ألمك على محمل الجد. أن تتمنى، ولو لمرة واحدة، أن تكون في موقع من يُسانَد… لكنك دائمًا في موقع من يُسانِد.
ليس لأنك لا تحتاج، بل لأن هناك من يحتاج أكثر منك. ليس لأنك لا تشعر، بل لأنك تعلمت ألا تُظهر ما تشعر به.
في بيت واحد، نشأ أخوان:
• أحدهما ضعيف أكاديميًا، مشتت، لا يجيد التصرف وحده، ربما يعاني من تأخر بسيط، أو ربما فقط لم يُمنح الفرصة ليكتشف قوته… أو ربما كان فقط الأصغر سنًا أو الأضعف بنية.
• الآخر ذكي، متفوق، سريع الاستيعاب، يتصرف بحكمة ومسؤولية منذ صغره.
وبمرور الوقت، توجهت كل الرعاية إلى الأول، فهو الذي “بحاجة”. يحتاج الصبر، يحتاج المساعدة، يحتاج الاحتواء.
أما الأخ القوي؟ فلا أحد يسأل إن كان يحتاج… الجميع يفترض أنه لا يحتاج!
منقول.
لكن، هل حقًا لم يكن يحتاج؟
الحقيقة؟
هو لم يكن مستقلًا، بل أُجبر على الاستقلال. لم يكن قويًا، بل لم يُسمح له أن يكون ضعيفًا. لم يكن راشدًا، لكنه اضطر أن يكون كذلك قبل أوانه.
ربما في لحظة كان فيها بحاجة لاحتواء، لكنه تردد في طلبه، حتى لا يزيد العبء على والديه.
وربما في يوم قرر أن يجرب، أن يبوح بما يضايقه، فسمع كلمات مثل:
“إلا ترى ما نحن فيه؟”
حينها، لم يشعر فقط بالذنب، بل بالخجل من احتياجه… وكأنها خطيئة لا تُغتفر.
والنتيجة؟
• الأخ القوي: يكبر وهو يحمل مسؤولية أكبر من عمره، يبتلع مشاعره، يشعر أن طلبه للاهتمام ضعف لا يُغتفر، وأن ألمه لا يُؤخذ بجدية. يصبح شخصًا لا يعرف كيف يطلب الدعم، لأن العالم أقنعه أنه لا يحتاجه.
• الأخ الضعيف: يكبر معتادًا أن هناك من يتولى عنه الأمور، يعتقد أن العالم يجب أن يراعي احتياجاته كما فعل والداه، ويجد صعوبة في تحمل المسؤولية أو مواجهة الواقع بمفرده.
لكن المأساة لا تنتهي عند الطفولة… بل تستمر حتى الكِبَر.
حين يكبر كل منهما، ماذا يحدث؟
• الأخ القوي يصبح شخصًا يختار شريكًا يحتاج الإنقاذ، لأنه لم يتعلم أبدًا كيف يكون هو من يحتاج. يتحمل فوق طاقته في العمل، في العلاقات، في كل شيء… لأنه تعلم أن الضعف ليس خيارًا. وحين ينهار؟ ينهار وحده، بصمت، دون أن يجرؤ على طلب العون.
• الأخ الضعيف يكبر معتقدًا أن العالم يجب أن يعامله بنفس الحماية التي اعتاد عليها، وحين لا يجد من يحمل عنه مسؤولياته، يشعر بالخذلان والظلم، لأنه لم يتعلم كيف يعتمد على نفسه.
والأسوأ؟
أن الأول يظل يبحث طوال حياته عن شخص يمنحه ذلك الاحتواء المفقود… لكنه لا يعرف كيف يطلبه.
والثاني يظل ينتظر أن يأتي شخص يكمل عنه الطريق… لكنه لا يدرك أن لا أحد سيحمله إلى الأبد.
لو تعلمون…
لو تعلمون كيف أنكم، دون وعي، تختارون لأبنائكم أدوارهم في الحياة…
لو تعلمون أن كل مرة قلتم فيها للطفل المسؤول: “أنت كبير وعاقل ولا تحتاج مثل أخيك”، كنتم تسلبونه حقه في الاحتياج، في التعبير، في أن يكون طفلًا كبقية الأطفال.
وأن كل مرة سهلتم فيها الطريق للطفل الآخر، كنتم تسرقون منه فرصة اكتشاف قدرته على المواجهة، وتجعلونه يصدق أنه لا يستطيع.
لو تعلمون أنكم حين تميلون تجاه أحد أبنائكم أكثر، لا تظلمون الآخر فقط… بل تظلمون الاثنين معًا.
لو تعلمون… لاخترتم العدل، لاخترتم التوازن، لاخترتم ألا تفرضوا على أحدهم قناع القوة، ولا على الآخر قناع العجز.
التربية ليست فقط حبًّا واحتواءً… التربية هي وعي، هي أن تدركوا أن كل كلمة، كل تصرف، كل نظرة… قد تكون حجر الأساس في بناء شخصية أبنائكم، أو أول شرخ فيها.
التوازن ليس رفاهية…
التوازن هو الفرق بين طفل يكبر مكسورًا لكنه لا يشتكي، وطفل يكبر هشًا لكنه لا يدرك.
كم من أبناء ظنوا أن القوة ثمنها الحرمان؟
وكم من آباء لم يدركوا أن إنصاف أحد أبنائهم لا يعني ظلم الآخر؟
اللهم اغفر لنا ما لم نكن نعلم، واغفر لنا ما كنا نعلم ولم نحسن فعله.
اللهم ارزقنا بصيرةً نرى بها أثر كلماتنا وتصرفاتنا في نفوسهم، وقوةً لنكسر دوائر التمييز والظلم غير المقصود.
اللهم اجعلنا سببًا في إخراج جيلٍ متوازن، يعرف معنى القوة دون أن يُحرم من الضعف، ويدرك معنى الاعتماد على النفس دون أن
يفقد الإحساس بالآخرين.