11/04/2025
شرارات الإبداع في التفكير التباعدي
رؤى من علم النفس العصبي
كيف يشعل علم النفس العصبي فتيل التفكير التباعدي؟
د. أحمد أبوبكر جاد الحق
دكتوراه الدراسات الرقمية في مجال التربية الخاصة
Colorado Boulder University
وماجستير علم النفس المعرفي
أبريل 2025
يُعد التفكير التباعدي (Divergent Thinking) من الركائز الأساسية للإبداع وحل المشكلات غير النمطية. ومع التقدّم في علم النفس العصبي (Neuropsychology)، أصبح بالإمكان توظيف نتائج أبحاث الدماغ والوظائف المعرفية العليا في تصميم استراتيجيات فعّالة لتحفيز هذا النوع من التفكير. كما يشكل التفكير التباعدي حجر الزاوية في الإبداع والابتكار، فهو القدرة على توليد مجموعة متنوعة من الأفكار والحلول الممكنة لمشكلة أو موقف معين (Guilford, 1967). في عالم يتسم بالتعقيد والتغير المستمر، تزداد أهمية هذه القدرة في مختلف المجالات، من العلوم والتكنولوجيا إلى الفنون والأعمال. يهدف هذا المقال إلى استكشاف كيفية تنمية التفكير التباعدي بالاستعانة بأساليب واستراتيجيات مستمدة من علم النفس العصبي، الذي يدرس العلاقة بين الدماغ والسلوك المعرفي. من خلال فهم الآليات العصبية الكامنة وراء التفكير الإبداعي، يمكننا تصميم تدخلات فعالة لتعزيز هذه القدرة الهامة.
وتشير الأبحاث في علم النفس العصبي إلى أن التفكير التباعدي ينطوي على شبكة معقدة من المناطق الدماغية، بما في ذلك قشرة الفص الجبهي (prefrontal cortex)، التي تلعب دورًا حاسمًا في الوظائف التنفيذية مثل المرونة المعرفية وتوليد الأفكار. كما أن الاتصال الفعال بين مناطق الدماغ المختلفة، خاصة بين الشبكة الافتراضية (default mode network) والشبكة التنفيذية المركزية (central executive network)، يعتبر ضروريًا لتدفق الأفكار الإبداعية (Beaty et al., 2015). الشبكة الافتراضية تنشط عندما يكون العقل في حالة راحة وتجوال حر، مما يتيح ظهور أفكار غير متوقعة، بينما تساعد الشبكة التنفيذية المركزية في تقييم هذه الأفكار وتطويرها بشكل منطقي.
أولاً: ما هو التفكير التباعدي؟
التفكير التباعدي (Lateral Thinking) يُعد أحد المهارات الأساسية التي تساهم في حل المشكلات بطريقة غير تقليدية، مما يعزز الإبداع والابتكار. وقد أثبتت الدراسات أن استخدام الأساليب النفسية والعصبية يمكن أن يعزز من هذه القدرة بشكل كبير. في هذا المقال، سنستعرض استراتيجيات وتقنيات محددة تستند إلى الأبحاث النفسية والعصبية لتعزيز التفكير التباعدي، وكيف يمكن تطبيقها في بيئات تعليمية ومهنية.
التفكير التباعدي ودوره في التعلم والإبداع: يُعرَّف التفكير التباعدي على أنه طريقة تفكير تسعى إلى اكتشاف حلول غير تقليدية أو غير متوقعة للمشكلات. وهو مفهوم طوره (Edward de Bono) كجزء من النموذج المتكامل للتفكير البشري. يتميز التفكير التباعدي بقدرته على تحفيز الأفكار الجديدة والخروج عن القوالب المعتادة، مما يساعد في تحسين قدرة الفرد على التكيف مع البيئات المختلفة والتعامل مع التحديات المعقدة.
يُعرّف التفكير التباعدي بأنه القدرة على توليد عدد كبير من الأفكار المختلفة لحل مشكلة واحدة، ويقابله التفكير التقاربي الذي يركز على إيجاد حل واحد صحيح. يُقاس التفكير التباعدي بأربع سمات رئيسة:
الطلاقة: عدد الأفكار المنتَجة.
المرونة: تنوع الأفكار عبر مجالات مختلفة.
الأصالة: غرابة وجدّة الأفكار.
التفاصيل: مستوى التوسيع في كل فكرة.
ثانيًا: الأساس النفس-عصبي للتفكير التباعدي تشير الأبحاث إلى أن التفكير التباعدي يرتبط بنشاط متزامن بين ثلاث شبكات عصبية رئيسة:
شبكة الوضع الافتراضي (Default Mode Network): مسؤولة عن التخيل والاستدعاء الحر للأفكار.
شبكة التحكم التنفيذي (Executive Control Network): تساعد على تنظيم وتقييم الأفكار المنتَجة.
شبكة التبديل بين المهام (Salience Network): تنسّق التحول بين الشبكتين السابقتين.
أظهرت دراسات التصوير الدماغي (fMRI) أن الأفراد ذوي الأداء المرتفع في مهام التفكير التباعدي يمتلكون مرونة عصبية أعلى وقدرة أفضل على تنشيط الشبكات الثلاث بالتناغم.
ثالثًا: استراتيجيات نفس-عصبية لتنمية التفكير التباعدي
التحفيز الكهربائي للدماغ غير الجراحي (tDCS): أظهرت نتائج بحثية أن تحفيز القشرة الجبهية اليسرى (DLPFC) يُعزز الطلاقة والمرونة في إنتاج الأفكار. فالعلاج بالصدمات الكهربائية الخفيفة (tDCS): في بعض الأحيان، يمكن استخدام تقنية العلاج بالصدمات الكهربائية الخفيفة (Transcranial Direct Current Stimulation - tDCS) لتعزيز التفكير التباعدي. هذه التقنية تستخدم تيارًا كهربائيًا ضعيفًا لإثارة أو تثبيط نشاط الدماغ، مما يعزز من قدرة الفرد على التفكير الإبداعي (Fregni et al., 2006). ومع ذلك، يجب استخدام هذه التقنية تحت إشراف طبي. مناسب في بيئات بحثية وعلاجية بإشراف مختصين.
إعادة البرمجة العصبية: من خلال تقنيات مثل العلاج بالتنويم المغناطيسي أو إعادة البرمجة العصبية (Neuro-Linguistic Programming - NLP)، يمكن للفرد تغيير أنماط التفكير الخاصة به وتحسين قدرته على التفكير التباعدي. هذه التقنيات تعمل على تعديل الذاكرة الحسية والاستجابة العاطفية للأحداث السابقة، مما يعزز من قدرة الدماغ على التفكير بطريقة إبداعية (Bandler & Grinder, 1975).
التدريب باستخدام الألعاب العقلية: ألعاب مثل الكلمات المتقاطعة، الألغاز، وحل المشكلات يمكن أن تكون وسيلة فعّالة لتحفيز أجزاء مختلفة من الدماغ وتعزيز التفكير التباعدي. تشير الدراسات إلى أن الأنشطة التي تركز على حل المشكلات يمكن أن تزيد من نشاط المناطق المرتبطة بالإبداع في الدماغ، مثل القشرة الأمامية المخيخية (Damasio, 2000).
استراتيجيات العصف الذهني التبادلي باستخدام الذكاء الاصطناعي: التفاعل مع أدوات تحفز التوليد المتنوع للأفكار من خلال آلية الاستجابة التفاعلية. والتفاعل الاجتماعي والتواصل الفعّال: التفاعل بين الأفراد في مجموعات عمل متنوعة يمكن أن يعزز من التفكير التباعدي من خلال تبادل الأفكار المختلفة. يساعد التواصل الفعّال على توسيع نطاق التفكير وتشجيع الأفراد على استكشاف وجهات نظر جديدة. وفقًا لدراسة أجراها (Brown & Collins, 2015)، فإن الأفراد الذين يعملون في بيئة تعاونية يكونون أكثر قدرة على التفكير خارج الصندوق مقارنة بالعمل الفردي.
فالتدريب على التفكير البديل: من خلال التدريب المتكرر على تقديم حلول مختلفة لمشكلة واحدة، يمكن تعزيز قدرة الدماغ على البحث عن بدائل إبداعية. يعتمد هذا التدريب على مبدأ "التفكير خارج الصندوق"، حيث يتم تشجيع الأفراد على التفكير بطرق غير مألوفة. دراسات نفسية مثل تلك التي قدمتها (Smith & Johnson, 2018) أظهرت أن التمارين اليومية التي تتضمن تحديات ذهنية يمكن أن تحسن من قدرة الأفراد على التفكير التباعدي. وتحفيز عمل الشبكة الافتراضية من خلال السماح للعقل بالتجوال الحر والتفكير دون قيود يمكن أن يؤدي إلى ظهور أفكار إبداعية.
الجمع بين الذكاء البشري والاصطناعي يُنشّط مرونة الدماغ.
التمارين القائمة على "التباعد المعرفي" Cognitive Defocusing: تتضمن تشتيت الانتباه المتعمد (مثلاً، التوقف عن التفكير في المشكلة لعدة دقائق).
يساهم ذلك في إعادة تنشيط شبكة الوضع الافتراضي وزيادة الإبداع.
الكتابة الحرة Freewriting: كتابة أفكار دون رقابة لمدة زمنية قصيرة يوميًا. والتدريب على المهام التي تتطلب تبديل القواعد: مثل مهام فرز البطاقات التي تتطلب تغيير معايير التصنيف بشكل متكرر. وتشجيع التفكير من زوايا مختلفة: عند مواجهة مشكلة، يمكن محاولة تصورها من منظور شخص آخر أو من تخصص مختلف.
تحفّز الطلاقة الذهنية وتقليل الرقابة المعرفية الصارمة.
التأمل التأملي (Mindfulness Meditation): يُساعد على تهدئة نظام التحكم المفرط وتنشيط التخيل العفوي. فاستخدام تقنيات التأمل والتأمل الذهني: أصبح التأمل الذهني وتقنيات الاسترخاء جزءًا من برامج تطوير الذات الحديثة. أظهرت الدراسات أن التأمل يمكن أن يؤثر إيجابيًا على الوظائف التنفيذية في الدماغ، مما يعزز من قدرة الفرد على التفكير التباعدي (Zeidan et al., 2010). من خلال التأمل، يمكن تحسين القدرة على التركيز وتجنب الضغوط التي قد تحول دون التفكير الإبداعي.
إن تنمية التفكير التباعدي لم تعد تعتمد فقط على بيئات تعليمية مشجعة، بل أصبح بالإمكان تعزيزها من خلال استراتيجيات تستند إلى علم النفس العصبي والتقنيات الحديثة. الدمج بين التدخلات المعرفية والأدوات الرقمية يفتح آفاقًا جديدة في التدريب على الإبداع وحل المشكلات، ويُعد التفكير التباعدي مدخلًا رئيسًا لتحفيز الابتكار في مختلف مجالات الحياة.
ومن خلال الجمع بين الأساليب النفسية والعصبية، يمكننا تطوير استراتيجيات فعّالة لتعزيز التفكير التباعدي. سواء كان ذلك من خلال التدريب على التفكير البديل، أو استخدام تقنيات التأمل، أو حتى التدخلات العصبية مثل tDCS، كل هذه الأساليب يمكن أن تلعب دورًا حاسمًا في تعزيز القدرات الإبداعية لدى الأفراد. مع تطور البحث في هذا المجال، يمكننا أن نأمل في تحقيق تقدم أكبر في تحسين القدرات الإبداعية وتعزيز الابتكار في مختلف المجالات.
الخلاصة: إن تنمية التفكير التباعدي هي عملية مستمرة تتطلب فهمًا للآليات العصبية الكامنة وراء الإبداع وتطبيق استراتيجيات وأساليب مستوحاة من علم النفس العصبي. من خلال تعزيز المرونة المعرفية، وتحفيز عمل الشبكة الافتراضية، وتقوية الاتصال بين مناطق الدماغ المختلفة، وتهيئة بيئة محفزة، يمكننا إطلاق شرارات الإبداع وتنمية قدرتنا على توليد أفكار وحلول مبتكرة لمواجهة تحديات المستقبل.
المراجع والمصادر
المراجع العربية
أحمد جبر (2022). الذكاء الاصطناعي وتوظيفه في تنمية التفكير الإبداعي لدى الطلاب. مجلة دراسات تربوية معاصرة، جامعة عين شمس.
جمال الخطيب (2009). سيكولوجية الإبداع في الطفولة والمراهقة. دار أسامة للنشر والتوزيع.
ضياء الدين محمد زاهر. (2005). التفكير: مفاهيمه وأنماطه وأساليب تنميته. مكتبة الرشد.
فتحي عبد الرحمن. (2013). الإبداع: مفهومه، وأهميته، ونظرياته، وأساليب تنميته. دار الفكر.
منى السيد (2021). الأسس النفسية لتعليم مهارات التفكير. دار الفكر العربي.
المراجع الأجنبية
Bandler, R., & Grinder, J. (1975). Patterns of the Hypnotic Techniques of Milton H. Erickson . Meta Publications.
Beaty, R. E., & Kenett, Y. N. (2020). Network neuroscience of creative cognition: Mapping cognitive mechanisms and individual differences. Current Opinion in Behavioral Sciences, 32, 22–29.
Beaty, R. E., Benedek, M., Silvia, P. J., & Schacter, D. L. (2015). Creative cognition and brain network dynamics. Trends in Cognitive Sciences,1 19(9), 487-495. 1.
Benedek, M., & Fink, A. (2020). Toward a neuroscience of creativity in divergent thinking. Neuroscience & Biobehavioral Reviews, 108, 29–37.
Brown, A. L., & Collins, A. (2015). A cognitive theory of multimedia learning: implications for design of technology-based instructional environments. Educational Technology Research and Development, 48(2), 21-42.
Chavez, R. S. (2022). Neural mechanisms of creative cognition: Insights from network neuroscience. Trends in Cognitive Sciences, 26(2), 124–138.
Chi, R. P., & Snyder, A. W. (2011). Modality-dependent and modality-independent access to conscious awareness of solution insight. Frontiers in Psychology, 2, 109.
Damasio, A. (2000). The Feeling of What Happens: Body and Emotion in the Making of Consciousness. Harcourt Brace. Fregni, F., Boggio, P. S., Nitsche, M. A., Marcolin,
Guilford, J. P. (1967). The nature of human intelligence. McGraw-Hill.
Kajimura, S., & Nomura, M. (2021). Psychological and neural mechanisms of mind-wandering. Neuroscience Research, 164, 53–58.
Simonton, D. K. (2012). Creative thought as a brain process. The Oxford Handbook of Creativity, 169-187.