
18/07/2025
حكاية ٢من دفتر الحكايات
**المعدّية**
حين يُحبس الإنسان ظلمًا…
لا يُسجن وحده.
يُحبس معه بيته، امرأته، أولاده، حتى ضوء الشمس في نوافذهم.
وهذه قصة امرأةٍ…
عَبَرَت الأيام كمن يعبر النيل على معدّية صدئة،
كل يومٍ تخشى السقوط…
وكل ليلةٍ لا تعرف في أي جهة من النهر تنتمي.
اسمها ناهد.
وفي عينيها، سكن القهرُ ولم يصرخ.
وفي قلبها، سؤالٌ واحد:
**أين يذهب الذين لم يخطئوا…
حين يقع العقاب؟**
***
كان الفجر لِسّه ماشي من شوية، والنهار بيزحف في صمت، ثقيل زي الملح.
غريب… زي كل الأيام الفقيرة التايهة، لا عارفة تقويم هجري، ولا ميلادي.
زي الست الغريبة في بلد مش طاهرة.
ناهد سيدة في التلاتينات، متوسطة الطول، قمحية اللون، نحيفة بعد ما كانت ممتلئة.
واسعة العينين، مليحة الوجه، لكن ملاحتها اختلطت بحزن وقهر مكتوم،
ما يتسمعش …بس يتشاف… مرسوم على ملامحها كانه لوحة فنية قديمة.
ورا البيت، مكان فاضي بيطل على النيل، شط بايش قديم مليان قش شبعان ماية.
موج النيل راقد، لا صوت ولا نفس.
الفراخ تنقر هنا وهناك، وأصوات طيور بحرية تشق السما وتخطف نظرها لفوق.
كانت قاعدة قدام الفرن البلدي القديم،
تمدّ إيدها في صمت لصينية العجين، وتلقمه للنار.
بتخبز فطير للعيال قبل المدرسة، مع رقاقتين دايبين.
وعينها شاردة، ودماغها بيزعق:
**"هو البحر ده مش كان المفروض يرجّع لي عبدالله؟
ولا حتى اسمع صوته؟"**
وفي وقت ما، الفرن ناره بتطقطق والدخان محمّر عنيها.
سمعِت صوت ابنها الصغير:
**"ماما جعان… عاوز أمشي يلا عشان ألحق المدرسة."**
مع اختلاط الأصوات والصور،
صوت ابنها ابتدا يتوه مع صوت النار.
وظهر صوت تاني… ضحكة عبدالله جوزها، وهو راجع من السفر.
ضحكته وهو بيحضن العيال، وهم هايصين حواليه.
وهي واقفة، عينها بتضحك، وقلبها طاير من الفرح.
لابسة أحلى حاجة عندها، مستنيه دورها في الحضن.
البيت نور تاني. بقت ست… مراته… مش بس أم العيال.
سنة كاملة من الغربة اتغسلت في حضنه.
كل حاجة بقت ليها طعم.
لكن الطعم ده مرّر بعد أيام.
عبدالله صيّاد، متغرب في اليونان، بيحاول يحسّن دخله. في عتمة المعيشة والضنك اللي بين الناس سافر يداوي ضيق الرزق بضيق الغربة اللي كان ضيقها وسع اكبر من هنا.
***
الخميس، قبل المغرب بشوية، على بلكونة البيت الواسعة اللي بتطل على النيل.
عبدالله قاعد، وحسام ابن خالته جه، وشه مهموم.
— "عندي قعدة عرفي النهاردة في بيت الحج عبد الجواد،
عشان المشكلة بتاعتي… وعاوزك معايا."
— "مشكلة إيه؟"
— "مشكلة الدين اللي عليّا لولاد يسري.
ناس… استغفر الله… سوء ومؤذين."
— "ليه؟ انت عليك كام؟"
— "مية ألف.
قلت لهم نصبر شهرين بس… مش راضيين. ناس سوء ومؤذين."
عبدالله سمع، وقلب عينه في النيل وبصّله باستغراب. هو عارف حسام.
— "خلاص، هاجي معاك… بعد المغرب."
وما كانش يعرف… إن ده كان ميعاد تبدّل الأحوال.
***
كان بعد المغرب.
عبدالله طالع من المسجد،
والدعاء لسه دافي في قلبه،
وصوت الإمام بيرنّ في ودنه:
**"ولا تحسبن الله غافلًا عما يفعل الظالمون…"**
وشوش كتير ماشية حوالين عبدالله وحسام،
بس كل واحد في سكّة،
وكأن الأرض من الجامع لبيت الحج عبد الجواد
كانت بتحاول ترجّعه…
تحجزه عن اللي جاي.
قدام دوّار قديم، وباب خشب عتيق،
دخل عبدالله وحسام،
واخدوا مكانهم في القعدة.
أولاد يسري، أربعة رجالة ضخام،
واقفين حوالين ست كبيرة،
وشها ناشف زي صخر البحر،
بس جواه ملح كتير… ومرّ.
عبدالله قعد، بيبص في الوشوش،
بيقرا الغل،
وبيسأل نفسه:
**"هو أنا جيت ليه؟"**
مال على حسام،
وقال بصوت واطي:
— "انت ايه ورّطك مع الناس دي؟
مالقيتش غيرهم؟"
حسام ما ردّش.
سكوته كان زي ختم على ورقة هتتقري بعد شوية.
دار الكلام،
والكلام جاب كلام،
وفجأة، الست نطقت:
— **"هاتدفع إنت يا عبدالله عن ابن خالتك؟"**
صوتها كان خشن، كانه سنّ صنّارة بتغرس في ضهره.
عبدالله سكت.
واحد من الرجالة قال له:
— **"الدين بيتسدّ… بأي طريقة."**
العركة قامت.
الإيدين اشتبكت.
الصوت علا.
الوجوه اتبدلت.
عبدالله ما ضربش ولا اتضرب.
بس خد بعضه وخرج.
خرج من باب بيت قديم،
لكن خرج كأنه دخل حتة أضيق من زنزانة.
> "الصياد كان رمى السهم خلاص.
> الصياد ما بيشوفش غير شرهه…
> يمدّ إيده وهو فاكرها حق،
> ويرمي سهمه، ناسي إن في قلب الفريسة بيت،
> وست… وعيال،
> هيعيشوا باقي عمرهم يدفعوا تمن لحظة انتصار.
> بس الصيد ماكانش شريف،
> وهايرجع له ميت سهم في صدره."
***
البيت وقت الضهر، بعد ست شهور من حبس عبدالله.
البيت أتغير … و ناهد مابقتش شبهها.
كبرت كأنها عَدّت العمر كله.
وشّها نَحَتته النحافة، ومفيش حاجة فيها فضلت زي ما كانت.
كانت لِسّه راجعة من عند أم ولاد يسري،
رايحة برجاء… الرحمة، يمكن يتنازلوا.
— "يا ست الكل، مش انتِ عارفة إن عبدالله مظلوم؟"
— "أيوه… عارفة."
— "طب ليه الأذيّة؟ أنا عندي عيال، ومحتاجة جوزي."
— "هو بن خالته… وكان معاه فلوس… يدفع عنه."
مازال وش الحجر متماسك. عليه خضار البحر. لا تعبر إليه الشمس. جايز ينور قلبه بالرحمة.
رجعت للبيت، والشمس بتموت آخر الشارع.
**علي**، الكبير، بيزعق:
— **"مش رايح المدرسة تاني!"**
**ياسين**، واقف مش فاهم:
— **"بابا مش راجع؟"**
**سُمية**، ساكتة، بتبص في الأرض.
**الصغير**، بيجري عليها:
— **"جعان يا ماما."**
بصّت لهم، وسكتت. دخلت أوضتها، غيرت هدومها، وخرجت.
***
ركبت المعدّية. الراجل قالها:
— "اتأخرتي ياست ناهد؟"
— "هأعمل ايه يا أحمد؟ مشاغل. وأديني جيت أتنفس شوية."
يعد ما نزلت للبر تاني، رحليها أخدتها زي كل مرة عند اللسان.
فضلت تبص جنب الفنار لما النيل الهبطان بيقابل البحر، والأفق الواسع مش ملك لحد. هنا بتسيب نفسها.
وبصوت عالي جواها ماحدش سامعه غيرها:
**"يا رب… أنا مش جاية أشكيلك، أنا جاية أقولك: أنا تعبت.
عبدالله جوّه، وأنا برّه… بس إحنا الاتنين محبوسين.
هو البحر ده… مش كان المفروض يرجّع لي عبدالله؟
هو أنا الفرح مش مكتوب لي…… والله يارب راضية بس مش قادرة استحمل.
لو كان عمل حاجة كنت قلت ماشي وكان زماني ساكتة بس؟!……
طب المفروض اعمل ايه … ده لو اختبار، اختبار صعب اوي مش عارفة استحمله."**
افكار كل يوم وكل لحظة بتردد تلف جواها بلا اجابة واضحة.
المغرب أذّن… قامت……
***
قامت، ركبت الميكروباص عشان تلحق ميعاد الدكتور.
وصلت العيادة… نفس الريحة… نفس الكرسي.
الدكتور واقف عند الشباك.
وجنبه لوحة بنية اللون خشب، مكتوب عليها بمسامير نحاس عريضة:
**﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾**
— "إزيك يا ناهد؟"
— "أنا جيت."
قعدت. بصّت في السقف وقالت:
**"مافيش حاجة هدّت، أنا بس تعبت من الجري ورا الراحة والحق.
ومن كتر الجري… هبطت.
صوتي انخرس، عشان مافيش أمل.
أنا مش جاية أشكي… ولا أتكلم.
بس كل مرة بخرج من هنا، بحس إني قلت اللي ما بعرفش أقوله.
أنا جاية من قلّة حيلتي.
عارف يا دكتور؟ لو مافيش معدية تاخدني من بر لبر، ماكنتش عرفت أجي أصلا هنا، ولا عرفت أبص لعيالي كل يوم وهما في وشوشهم أسئلة كتير.
أنا ست مؤمنة… بس بقول: ليه بس يارب؟…"**
بعد الجملة ده، دموع من غير صوت. دموع التوسل لله لإنقاذها من بوادر اليأس والإحباط اللي بتحاول تنهش في قلبها كل يوم. في وسط نهار مش نهار، وليل كانه ثقب أسود بيطحن اللي بيمر عليه كل ليلة.
قال بهدوء:
**"أوقات بنفتكر إننا لو سكتنا… الألم هيعدي.
بس هو بيستنى في الركن، وبيتحول لصوت تاني… جوّ الجسم."**
قالت وهي بتزق الدمع:
**"أنا كنت مراته… دلوقتي بقيت أمه، وام ولاده، وحمالة أسية… وماحدش شايفني.
انت شايفني؟"**
قال وهو بيبص في عينيها:
**"أنا شايفك… بس الأهم، تبقي انتِ شايفة نفسك."**
سألها:
— "تحبي نكمّل؟"
ردّت:
— "لأ… بس شكراً. الحمد لله."
خرجت.
***
الدكتور سكت. وجواه حاجات بتغلي.
خرجت ناهد من الجلسة – وكانت آخر جلسة في اليوم ده – خرجت وسابت الدكتور سرحان وحاير بين السطور الكتير اللي في دماغه. مش لاقي سطر حقيقي يعبر عن اللي جواه، غير انه خبط المكتب بإيده وهو في حالة غضب.
في كل مرة بتيجي فيها ناهد، بيحس إنه بيقابل وجه القهر من غير صوت.
وإن شغله مش مهنة… لكن محاولة لحماية الباقي من الانكسار.
هو قعد لوحده، وبص في الورق، وما قراش.
وكتب:
"الناس بتتحمّل فوق طاقتها…
وإحنا بندّيها مواعيد كل أسبوع.
كانت هاتعمل ايه ناهد لو مافيش حياتها كل يوم؟ لحظة زي لحظة المعدية……
في لحظاتٍ كثيرة… لحظاتٍ تُشبه ناهد،
يقف الطبيبُ عاجزًا، قاصرَ الحيلة،
مُصابًا بشللٍ فكريٍّ لا مثيل له.
يحتاج هو الآخر إلى من يضمّد جُرحه…
من جراحٍ لا تُصيبه شخصيًا،
بل تنفذ إليه من شقوق الآخرين…
جراحٌ قاتلة.
فخلف كلِّ قصةٍ كقصة ناهد،
حياة…
لا أحد يريد أن يراها."
---