03/02/2025
اعلم ان القلب اذا خلا من الاهتمام بالدنيا والتعلق بما فيها من مال او رياسه او صوره، وتعلق بالاخره، والاهتمام بها من تحصيل العده والتاهب للقدوم علي الله سبحانه فذلك اول فتوحه وتباشير فجره، فعند ذلك يتحرك قلبه لمعرفه ما يرضي ربه منه فيفعله ويتقرب به اليه وما يسخطه منه فيجتنبه.
فكل من ايقن بلقاء الله ويسأل ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا اجبتم المرسلين؟
لابد ان يتنبه لطلب معرفه معبوده والطريق الموصله اليه فاذا تمكن في ذلك فتح له باب الانس بالخلوه والوحده والاماكن الخاليه التي تهدا فيها الاصوات والحركات،
● ليفتح له حلاوه العباده بحيث لا يكاد يشبع منها، ويجد فيها من اللذه والراحه اضعاف ما كان يجده في لذه اللهو واللعب ونيل الشهوات، بحيث اذا دخل في الصلاه ود ان لا يخرج منها
●ثم يفتح له حلاوه استماع كلام الله فلا يشبع منه، واذا سمعه هدا قلبه به كما يهدا الصبي اذا اعطي ما هو شديد المحبه له.
●ثم يفتح له شهود عظمه المتكلم به وجلاله، وكمال نعوته وصفاته وحكمته، ومعاني خطابه، بحيث يستغرق قلبه في ذلك حتي يغيب فيه، ويحس بقلبه قد دخل في عالم اخر غير ما الناس فيه.
●ثم يفتح له باب الحياء من الله، وهو اول شواهد المعرفه. وهو نور يقع في القلب، يريه ذلك النور انه واقف بين يدي ربه عز وجل، فيستحيي منه في خلواته وجلواته، ويرزق عند ذلك دوام المراقبه للرقيب، ودوام التطلع الي حضره العلي الاعلي، حتي كانه يراه ويشاهده فوق سماواته، مستويا علي عرشه ، ناظرا الي خلقه، سامعا لاصواتهم، مشاهدا لبواطنهم.
●ثم يفتح له الشعور بمشهد القيوميه، فيري ساير التقلبات الكونيه وتصاريف الوجود بيده سبحانه وحده، فيشهده مالك الضر والنفع، والخلق والرزق، والاحياء والاماته، فيتخذه وحده وكيلا، ويرضي به ربا ومدبرا وكافيا.
وعند ذلك تفيض انوار المعرفه والمعامله والصدق والاخلاص والمحبه من قلبه، كما يفيض نور الشمس عن جرمها، فيغرق حينيذ في الانوار كما يغرق راكب البحر في البحر
● فان استمر علي حاله واقفا بباب مولاه، لا يلتفت عنه يمينا ولا شمالا ، فيستغرق قلبه في انوار مشاهد الجلال والجمال، فيبقي قلبه سابحا في بحر من انوار اثار الجلال، فتنبع الانوار من باطنه كنبع الماء من العين، حتي يجد الملكوت الاعلي كانه في باطنه وقلبه، ويجد قلبه عاليا علي ذلك كله، صاعدا الي من ليس فوقه شيء.
ثم يرقيه الله سبحانه، فيشهده انوار الاكرام بعد ما شهد انوار الجلال، فيستغرق في نور من اشعه الجمال. وفي هذا المشهد يذوق المحبه الخاصه الملهبه للارواح والقلوب، فيبقي القلب مأسورا في يد حبيبه ووليه، ممتحنا بحبه.
فالسعيد كل السعيد، الموفق كل التوفيق من لم يلتفت عن ربه تبارك وتعالي يمينا ولا شمالا، ولا اتخذ سواه ربا ولا وكيلا، ولا حبيبا ولا مدبرا، ولا حكما ولا ناصرا ولا رازقا.
مدارج السالكين. ابن الجوزي