07/12/2025
صفحة من كتابي (طييب تحت التدريب)
متوفر حالياً في
مكتبة المسلة- شارع المتنبي- هاتف التوصيل
0771 055 2939
مكتبة أطراس- الدودي- شارع التانكي هاتف التوصيل
0 770 476 8313
سكران.. يعالج سكران!
كان من المقدّر لي أن اُحب إختصاص (الجراحة), فقد كانت مدّة دوامي في مستشفى (الطوارئ الجراحية في الرصافة) مدّة تعلمت فيها الكثير جداً من المهارات الجراحية, ومنها كيفية خياطة الجروح وإتمام العقُدة المُزدوجة للخيط الجراحي باستعمال يد واحدة فقط ودون الاستعانة بأي شئ آخر,أنواع خياطات الجروح المكشوف منها والمخفي, وكيفية عمل قص الوريد وغيرها من المهارات الأساسية في (الجراحة).
في الاسبوع الثاني او الثالث لي في مستشفى (الطوارئ) سمعت شخصاً يناديني بإسمي, نظرت فإذا به الجراح الاختصاصي (سامي لورنس ) وهو يقف خلف جزء من باب صالة العمليات بعد أن فتحه, لأنه كان بكامل ملابس العمليات ولا يجوز له الخروج بها الى الممر, سمعته يناديني "تعال سامي" سألته "نعم دكتور؟" وأمرني أن أغيّر ملابسي وارتدي ملابس العمليات فوراً كي اُجري العملية للمريضة المستلقية على سرير العمليات. وبسرعة ارتديت ملابس العمليات المعقمة والكمامة والقفازات الجراحية وغسلت كفّي و ذراعي جيداً, وطلب مني أن أبدأ بشق جدار البطن!. كنت قد شاهدته سابقاً وهو يجري العمليات وساعدته في تنفيذ بعضها, لذا كنت واثقاً من إمكانية إطاعة إرشاداته. ابتدأت بشق جدار البطن, ووقف (سامي لورنس) طوال العملية يساعدني, وانا واقف مكان الجراح الرئيسي. كانت تلك أول مرة اجري فيها عملية استئصال (زائدة دودية), أو كما تسميها أم جواد (بلندكس), أجريتها (من الجلد الى الجلد) وكان الإحساس بنشوة النجاح لايوصف!.
)سامي لورنس) رحمه الله, كان جراحاً رائعاً انساناً طيباً بمعنى الكلمة. كان يحب جميع الاطباء المقيمين, ويحاول أن يساعدهم بكل قوتّه, وكنا نحبه كثيراً ونشعر انه قريب منا بل كنا نحكي له كل اسرارنا و حتّى حياتنا العاطفية ومشاكلنا الشخصية!.
في إحدى المرات جاءت سيارة الإسعاف تحمل شابّاً مصاباً بحادث إنقلاب سيارة بعد ارتطامها بشجرة. كان يبدو عليه فاقداً للوعي بسبب حالة السكُرُ الشديدة التي هو فيها. حاولت إسعافه لكن ضغط الدم كان في تناقص متسارع كما إن نبض قلبه كان في تزايد مستمر مؤذناً بوجود نزيف داخلي.
إتصلت بالجراح الخافر في ذلك اليوم وقد قاربت الساعة منتصف الليل ولم يكن عنده رغبة حقيقية في المجيء حيث أخبرني أن عنده ضيوف و(مناسبة عائلية خاصة)!.. وبعد الحاحي بأن المصاب قد يفقد حياته، لم يتمكن من التملص من تلك المهمة, وافق الجراح على مضض على أن أرسل له سيارة الإسعاف لجلبه من بيته, لأنه- لأسباب خاصة- لا يتمكن من قيادة سيارته تلك الليلة!.
بعد دخوله الصالة قمت بالتهيؤ لمساعدة الجّراح في العملية, كان واضحاً عندي إن الجراح هو الآخر في حالة سُكُر شديدة!.. تمت عملية استكشاف البطن وترقيع أجزاء ممزّقة من أحشاء المصاب والتي كانت السبب في النزف الداخلي .. وطوال الوقت وأنا اساعد في تلك العملية كنت أسبح في غيمة كثيفة من (الروائح).. رائحة (الهالوثين) غاز التخدير المستعمل, ورائحة (الزحلاوي) المنبعث من فم المريض ورائحة (الويسكي) المنبعث من فم الجرّاح الذي يجري العملية!.. كنت أضحك في داخلي.. فقد كنت اليقضان الوحيد في ذلك المكان آنذاك! خرجت من العملية وأنا (أترنح) و رأسي ثقيل بدون خَمرَة!.. لكنني أنقذت حياة ذلك المصاب, والذي تماثل للشفاء بسرعة بعدها!.
في يوم آخر كنت أساعد في إحدى العمليات لأحد المصابين في حادث سيارة آخر. اثناء تلك العملية التي استغرقت طويلاً توجب ازالة طحال ممزق والتعامل مع تمزق في الكبد وفي الأمعاء, كنت كعادتي دوماً (أسترق) واتفحص الأفعال الحيوية للمصاب بين حين وآخر رغم وجود الطبيبة المخدّرة والتي كانت مستغرقة في ضخ الهواء في أنبوب تنفس المريض بواسطة كيس (امبوAmbu bag ) فجأة انتبهت الى إن المريض لم يكن عنده اي نبض.. وتسللت كفي الى أجفان المريض وفتحت عينيه, فحصت البؤبؤ لأجد علامات (لاتقبل الشك) بكونه قد فارق الحياة، وربما منذ مدة ليست قصيرة!, تلك العلامات التي صرت خبيراً بها في الأشهر المحزنة التي قضيتها في مستشفى الحميّات!.
بهدوء أوصلت الخبر للجراح:
" سيدي... أظن أنك تشتغل على شخص ميت!"
لم يكن على الإطلاق تصوري لوقع الخبر على الجراح.. إذ فجأة أشعرني بأنه قد إنهار! ألقى بالأدوات التي في يديه وصرخ بالطبيبة المخدرّة مؤنّباً إياها على استمرارها بالعمل على ضخ الهواء ل(شخص ميت)! دون أن تنتبه قبل حصول ذلك! شعرت لوهلة بأنه سوف يقتلها!..
المفاجأة كانت بعد ذلك.. إذ يبدو أن هناك سياق متعارف عليه في هذه المستشفى!.. ركضت (المعينة) البدينة الى خارج صالة العمليات ثم عادت راكضةً بقنينة أوكسجين وهي تخبر ذوي المصاب المتجمهرين خارج صالة العمليات, أن المصاب قد تدهورت حالته فجأةً!.. ثم خرجت راكضة ثانية من صالة العمليات لتجلب شيئاً آخر! وفي كل مرة تخبر ذويه أنه في حالة حرجة (كل هذه في ما يبدو لتهيئة أذهانهم لتقبل الخبر المشؤوم).. بعدها وضعناه على نقالة وابقينا المغذي معلقاً في وريده و قناع الأوكسجين على الوجه و أخرجناه الى الردهة ونحن نركض به في تمثيلية محكمة السيناريو، وخلفنا المعينة تقول بأنه في حالة خطرة!.. في الردهة قمنا بعدة محاولات لإنعاش القلب.. كنا نعرف جيداً أنها بلا جدوى, وفات أوانها، إلّا أنها كانت ضرورية جداً لتهيئة ذوي الشاب للخبر المفجع!.. وبعد ربع ساعة خرجنا وقد علت وجوهنا الكآبة والحزن وأخبرنا أهله بأننا بذلنا جهدنا لكن المنية سبقتنا له و توفاه الله.. حفظت فيما بعد الدرس.. إن اسوأ ما يمكن أن يواجه الجراح هو أن يموت المريض على طاولة العمليات, فذوي المريض لن يرحموه مهما حاول إقناعهم، وسوف يكون متهّماً بالتقصير وإن كان بريئاً، لكنهم يتقبلون فكرة ان مريضهم قد توفي في سريره، في الردهة، لا على طاولة العمليات!!
خفارات (العيادة الخارجية) كانت مضنية في هذه المستشفى!.. فجرحى المشاجرات والسكارى والمصابين بحوادث السيارات وغيرها كانوا يتوافدون بسيارات الإسعاف طوال ساعات الليل. ورغم وجود سرير وفراش وثير في العيادة الخارجية, إلا أنني كنت مؤمناً إنني يجب أن اكون يقضاً مرتدياً صدريتّي وجالساً على كرسي العيادة خلف الطاولة عند سماع صفارة سيارة الإسعاف وهي تقترب من المستشفى وقبل دخول المصاب الى عيادتي. ومما زاد من المعاناة أنّ العيادة الخارجية لمستشفى (العلوية للولادة) كانت مقابل عيادتنا الخارجية تماماً.. وفي كثير من الأحيان كنت أقفز من فراشي وأرتدي صدريتي وأجلس بكل إنتباه في الساعة الثانية أو الثالثة بعد منتصف الليل, لأجد انه (إنذار كاذب), إذ تتوقف الإسعاف على الجهة الثانية من الشارع عند مستشفى الولادة، جالبة نسوة لا تحلو لهن الولادة إلا بعد منتصف الليل, لتضاعف من معاناتي أثناء (الخفارة(!
لو توقف الأمر فقط على (سامي لورنس) لصرت بالتأكيد جرّاحاً, ولكن كان هناك جراح اخر اكثر قدماً من (سامي لورنس), (وأكثر سطوةً ونفوذاً لدى المسؤولين ووزيرالصحة), هذا الجراح رأيته بأم عيني, أثناء الجولة الصباحية في الردهة, يسحب المريض من سريره ويلقيه على الارض وهو يؤنبه بعصبية, كل ذلك لأنّ المريض قد راجع نفسه وعدل عن إجراء العملية التي كان يفترض أن تُجرى له ذلك الصباح!. ورأيت اناساً كبار السن وهم يُهانون على يديه ويلقى بهم خارج الردهةً. كان سر قوته هو انه صديق لوزير الصحة وصديق لمدير المستشفى الذي كان يخشاه و يتملق له.
ورغم ان بقية الجراحين لم يكونوا بهذه (الشراسة), وكانوا يمتازون بالطيبة والخلق في تعاملهم معنا ومع المرضى, إلا أن هذا الشخص نَفّرني من (الجراحة) وكرهتها بسببه, عندما رأيت اُناساً بعمر والدي يهانون ويعتدى عليهم كلامياً ويُلقى بهم خارج أسرّتهم, وخشيت أن الجراحة ستعني لي صراعاً مستمراً. ورغم المثال الجميل للجراح الملتزم الذي كنت أراه في بقية الجراحين, إلا أنني احسست في داخلي بأن هذا الاختصاص (ليس ثوبي)!
وفيما بعد صار تدريبي فى (الطب الباطني) في (مدينة الطب) عند (فرحان باقر) وفريقه, صارت عندي قناعات جديدة تماماً في ما يمكن ان اتخصص فيه وهذه المرة بإتجاه (الطب الباطني), حيث أحببت هذا الاختصاص وأحسست أنه ينسجم مع قناعاتي الشخصية. وبعدها انتقلت الى (مستشفى الكرامة) وعملت في (طب الأطفال) الذي عشقته!, كيف لا وقد كان (محمود البحراني) ذلك الطبيب الرائع معلمي وقدوتي. تعلمت منه مبادئ (طب الأطفال), ولكن الأمر الاهّم أني تعلمت كيف أكون (طبيباً) بحق. و(طب الأطفال) و(الطب الباطني) اختصاصان متداخلان لا يختلفان كثيراً عن بعضهما, أحببتهما وشعرت انني ربما مقّدر لأن اختّص بأحدهما.
التعقيبات
الاستاذ الأديب فاروق سلوم
نحن كقراء نحتاج الى هذا النوع من السير والمذكرات تقربنا اكثر مما تنطوي عليه حياة البشر وماترويه سيرة الطبيب وحياة الاطباء ودمت مبدعا في الطب والكتابة
د عباس عبدالله حسين
مقالة رائعة لواقع الطب في العراق وما يمكن ان يمر به الطبيب من مشاكل ومنغصات بمجال عمله
انا ايضا تركت الجراحة ولجات للباطنية ولكن لموقف رايت فيه الجراح بموقف لا يحسد عليه وهو يتصبب عرقا ووجهه قد اصفر واحمر وهو يجري عملية الغدة الدرقية والجرح لايتوقف من النزف وكان اقد اعطى المريض ٣ وحدات من الدم عندها تركت صالة العمليات وكنت طالبا في الصف السادس وانا اشاهد كم القلق الذي تعرض له الجراح فمات حب الجراحة بقلبي.
د مها سليمان
ممتعه وواقعية ، احدى نظريات فرويد أن من يتجه للجراحة او تكون هوايته الصيد هو عنيف اصلا ويفعل هذا as sublimation وضع ما يرفضه المجتمع في مسار مقبول ، انا نفرت أيضا من الجراحة في الإقامة الدورية وبدلت شهر من ٣ شهور لجراحة الاذن والأنف والحنجرة لان المقيم الاقدم (الخلفة) استدعي لخدمة الاحتياط، أجريت عملية رفع اللوزتين واستخراج ما يدخل في الأنف والاذن بواسطة الملقط الخاص, ،وازعجهم هو استخراج عظم سمك من حنجرة ، حينها عرفت كيف تكون راءحة الكحول زائداً بعض القيء!
د هاله سلوان
طبعا فعلا حب الاختصاص يكون من خلال الاخصائيين.. طول عمري اكول نهايتي لو نسائيه لو اطفال حالي حال اغلب البنات الطبيبات بس من دخلت فرع الطب الباطني وتعرفت ع دكتور ايهاب سعيد اخصائي الجهاز الهظمي عاملني كفرد من الفريق مالته وجان من يشوفني هو يبدي السلام وبوجه بشوش وعلى الرغم من اخطائي المستمره جان دائما يصححلياها بنيه تعليم ليس توبيخ او استنقاص مثل اغلب الاساتذه.. من خلاله صار هدفي الطب الباطني وبالاخص الجهاز الهظمي
د عادل الخفاجي
اتابع بشغف كل ما تنشره على مدونتك ويجتذبني اسلوبك الساحر في الكتابة , السرد السهل الممتنع. اتمنى ان تنتج سلسلة طبيب تحت التدريب كمسلسل تلفزيوني بنفس العنوان لما فيه من أحداث و( اكشن ) وتوثيق لمرحلة من تأريخ العراق وعرض لحياة المجتمع البغدادي اليومية . فمعارك الشمال و دعم ايران للتمرد وانهيار معنويات البيشمركة بعد اتفاقية الجزائر تؤرخ لتلك الفترة وانعكاساتها على المواطن والطبيب. وسرية البغال وحمال الشورجة السكران وكثير من اللقطات التي سجلتها في ذاكرتك الفولاذية (ادامها الله ) تضفي على المسلسل مفاجئات مثيره للمشاهد. هناك مسلسلات عالمية عن النشاط اليومي للاطباء ولكنها لا تحتوي مشاهد انسانية تلامس الخاطر مثل حلقات (طبيب تحت التدريب). أليس انتاج مثل هذا المسلسل سيحصد رضا وارتياح المشاهد العراقي اكثر بكثير من مسلسل (العرضحالجي) البائس !!!
حين تكتمل حلقات هذه المدونة اقترح ان ترسلها الى المشرف العام على ام بي سي عراق او قناة الشرقية واي مخرج سيقرأ حلقاتك سيطير فرحاً بالمواضيع التي كتبتها ويصرخ ( وجدتها) .
د راجح الحلي
دكتورنا العزيز الغالي كتاباتك أصبحت حلقات من مسلسل أحبه وانتظره كما كنا في السبعينات فهي قصص ودروس وأحداث وسير ذاتيه إنها في الحقيقة شاملة لكل مايمر به الطبيب من أحداث ومعانات ودروس إنه لكتاب جميل بيد ساحرة في طريقه السرد واختيار الموضوع فانت كما قال مارسيل بروست في روايته العملاقه،(البحث عن الزمن الضائع)، لقد كتبت كل شئ ووضعت اسسا لكل شئ وبلغت عمق جزيرة لايمكن الوصول إليها.. عاشت الايادي.