27/07/2025
سلسلة حكيم عيون .
قصص واقعية من وحي مشواري في مهنة طب وجراحة العيون ....
حكيم عيون 2
ثانيا: إسعاف رضوض العين
ترن..............تررن.....................تررررررررررن
تقافزت دقات قلبي وطغت على أنفاسي المتقطعة وفي حركة زنبركية لا إرادية كان اللحاف يطير مبتعدا عن وجهي عندما وجدتني أجلس وسط السرير أتساءل : أين أنا ؟
لحظة واحدة وصفعني برد كانون لأدرك جيدا أنها الواحدة بعد منتصف الليل.
- يا إلهي..إنه نداء المستشفى, ماذا يريدون؟
لم تمض ساعتان مذ فارقتهم, صحيح , ومن الحب ما قتل!
- هالو...طبيبة العيون معكم, خير؟!
- هالو ...هنا قسم الطوارئ , نرجو منك الحضور فورا لدينا حالة رض على العين اليسرى إثر سقوط .
تظهر العين وكأنها مثقوبة على صورة الأشعة وهناك نزف كثيف في الأجفان يغلقها تماما.
- ما هي الحالة العامة للمصاب؟
- المصابة امرأة في الثالثة والسبعين , ثملة , وجدت فاقدة للوعي على قارعة الطريق , أظهرت سجلاتها أنها تعاني من الصرع , وجد مستوى دواء الصرع في دمها منخفضا.
لا يزال طبيب الأعصاب يفحصها وطلب استشارتك فورا
- أعط المريضة مضادا للتشنج وللألم و للتقيؤ وأبقها في السرير. لا تدعها تمس عينها ولا تدع أحدا يضع لها أي قطرة ولا تنس إعطاءها حقنة للكزاز ومضادا حيويا, أنا قادمة في الحال.
تلفعت بكل أدوات العزل الحراري وفتحت الباب بكل شجاعة أمام عاصفة ثلجية غطت حتى ذلك الحين أربع درجات تفصله عن الطريق العام الغارق تماما في صحراء الثلج.
ساعة واحدة وتغلق أبواب مترو الأنفاق,
خمسة عشر دقيقة من المشي تفصلني عن أقرب محطة.
- ماذا خرجت تفعل هذه المجنونة بعد منتصف الليل في هذا المناخ القاتل؟!
في الثالثة والسبعين وثملة!! يا لحظي العاثر... لا يعترف بالطبيب منا حتى يدمغ بختم الغرب, وهذه هي النتيجة....نسافر عبر القارات لنعالج المجانين ..!
يا رب لطفك....
إذا حالفني الحظ ولم أسقط مثلما سقطت هذه العجوز فهل سأنجو من التجمد في هذا الصقيع ؟ وماذا عن رجال العصابات المتسكعين في الطرق والراتعين في المترو؟
يا رب سترك......
لاح باب النفق من خلال تلال الثلج فاندفعت نحوه بكل ما تبق لي من قوة غير مبالية بحمل ملابسي الشتوية واقتحمت بابه كما تقتحم دبابة ملجأ حصينا ,
ولوهلة توقف فيها الزمن............. .
تصلبت عيناي عندما حدق بي شاب يضع حلقا في أذنه اليسرى وقد صبغ شعره بكل ألوان قوس قزح,
ما لبث أن أطرق وتململ في مشيته مبتعدا وتبعه صديقه الذي كان يقف وظهره لي عندما أدار رأسه وحدق بي هو
الآخر...................
- جيد , ربما اعتقداني شبحا بمعطفي الأسود و نديفات الثلج القابعة على حاجبي وأهدابي...!
لا...لا...لا..
هم معتادون على هكذا منظر...الأرجح أنهما ظناني للأسف " إ ر ها بية" بسبب الحجاب الذي أضعه على رأسي خاصة مع الحملات الموجهة التي تبثها وسائلهم الإعلامية ليل نهار و ما فعلته من غسيل للأدمغة تجاه شعوب منطقتنا .....
قلت في نفسي :
هه , هه, هه...رب ضارة نافعة ! لأول مرة يكون الظن السيء حسنة .
أخيرا وصلت للمستشفى........... ..
وتشرفت برؤيتها........................ .
عجوز ضامرة ,مستسلمة لقدرها , تدور عينها المفتوحة على غير هدى , بينما تدثرت الأخرى بجفنين نازفين ومنتفخين انتفاخا كبيرا.
- أين جايسون؟ حضر جايسون – طبيب الطوارئ المقيم- حاملا معه صور الأشعة,
- أنظري هنا... أعتقد أن العين
مثقوبة.
- هم ..ممم ........ولكن لا يوجد نزف داخل العين ولا كسور في عظام الحجاج , ربما تكون هذه العاثرة محظوظة ,
أعتقد أن هذا انعكاس خاطئ في صورة الأشعة, في بلادنا يقولون : العين عليها حارس... تعال للنظر...
أزحت جفنها العلوي برافع للجفن فإذا بمقلتها زرقاء اللون , بللورة لامعة لم تمس تسبح في ملتحمة مغرقة بالدماء......
رقص بؤبؤها رقصة الحياة عندما سلطت الضوء عليه , وقفت عينها أثره في كل اتجاه, ومسح منظار الشبكية قعر العين بكل سلاسة, فلا جرحا ولا ثقبا.
أما ضغط العين ففي حدوده الطبيعية ولو كانت تلك النبيلة مفقوءة لهبط الضغط فيها تماما مثل كرة نفذ هواؤها فأطبق بعضها على بعض.
-أشكرك يا جايسون على اهتمامك بالمريضة, فرضوض العين خطرة أحيانا , على من تعرض لها التوجه للمستشفى فورا.
لحسن الحظ , تحاط العين بعدد من الجيوب الأنفية المملوءة بالهواء وتعمل كوسادة تمتص الضربات فتحميها,
والأنسجة حول العين رقيقة تنتفخ لأقل نزف فيها , وهذا النزف عادة ما يكون سطحيا يزول تماما خلال شهر أو شهرين.
- ليتم إدخالها لمراقبة وضعها العام مع وضع كمادات من الماء البارد فوق عينها المصابة كل ساعتين حتى ينقطع أثر النزف, ويرجى إبقاؤها في سريرها حتى يعود مستوى دواء الصرع في دمها لحدوده المقبولة ويعود لها وعيها الكامل حتى لا تقع مرة أخرى فتتعرض لإصابة حقيقية هذه المرة.
في السادسة صباحا كان لا بد من فنجان القهوة وأنا أرقب الناس من نافذة ردهة المستشفى في رحلة سعيهم اليومية غير مبالين بأكوام الثلج التي كانت البارحة تلالا و أصبحت اليوم جبالا.
- الله..............! ما ألذه من فنجان قهوة....... سأتكئ عليه في تمضية يومي الشاق إلى أن أعود للبيت فأنام........ أريد فقط أن أنام...........
لأعرج على تلك العجوز التي أقضت مضجعي أولا,
- صباح الخير سيدة إستر .. كيف أنت اليو.... وفتحت الستارة لأجد السرير فارغا.....
– أيتها الممرضة , هل المريضة في الحمام؟
- ماذا؟ هي ليست في السرير؟
- أنا من يسألك .. أولا تدرين أين هي؟ ألم أمنع حركتها؟
يا لهذه العجوز الزئبقية , لماذا هي مصرة على تحميلي وزرها ابحثوا عنها فورا..........
- أنت...... هل أنت السيدة إستر, من الذي سمح لك بمغادرة سريرك؟
أبعدت عن فمها عقب سيجارة كانت مدفأتها الوحيدة وهي تجلس على حافة الرصيف قبالة باب المستشفى مرتدية ثوب المرضى الرقيق ورفعت رأسها ونظرت إلي طويلا قبل أن تجيب.........
- نحن هنا في كندا ........نفعل ما نريد.
جلست القرفصاء أمامها ووضعت عيني في عينها غير المصابة محاولة الإمساك باللهب المتقادح من أنفاسي- قدر المستطاع -
- و أنا لم آت من النصف الآخر من العالم لأخرج في عاصفة ثلجية في منتصف الليل وأعرض حياتي للخطر لكي تفعلي أنت ما تريدين ...!
اقتربت مني أكثر و ساد الصمت للحظات وهي تحدق بي , وأنا أحدق بها حتى زفرت زفرة طويلة..................
- أعلم ..., أعلم ....... أتيت من النصف الآخرمن العالم لأن الله بعثك لي , فأنت ملاكي,
ألا تفهمين؟! أنت ملاكي الحارس!
أكمل الصمت سيادته للحظات أخرى عندما أمسكت بيدها والدفء يعم المكان.......
– أتعلمين؟ و أنت كذلك... أنت أيضا ملاكي الحارس
هيا تعالي لندخل, فبقية الملائكة تبحث عنا
بقلم: الدكتورة آمال السيد
2006-12-31
الحكمة : الطب مهنة إنسانية وهي مهنة شاقة تتطلب تفانيا من الطبيب واحتراما وتقديرا وتقيدا بتوصيات الطبيب من المريض