
27/06/2025
من مذكراتي #3: حالة توهم المرض
كانت شمس الظهيرة ترسم ظلالًا طويلة على مكتبي، بينما كنت أتصفح ملف فادي. شاب في أوائل الثلاثينات، وسيم وناجح في عمله كمهندس برمجيات. كانت المشكلة واضحة: اضطراب توهم المرض (Illness Anxiety Disorder). كان فادي يعيش في دوامة من القلق المستمر بشأن صحته، مقتنعاً بأنه يعاني من أمراض خطيرة، رغم أن جميع الفحوصات الطبية كانت سليمة.
لا أستطيع النوم. أشعر بوخزات غريبة هنا وهناك. هل يمكن أن يكون سرطانًا؟؟ قالها فادي في جلسته الأولى، وعيناه تحملقان بي بلهفة. بدا كطفل تائه. بدأت على الفور بتطبيق منهج العلاج النفسي الديناميكي المكثف قصير المدى (Intensive Short-Term Dynamic Psychotherapy - ISTDP)، وهو الأسلوب الذي أفضله للوصول إلى جذور المشكلة بسرعة.
الرحلة لم تكن سهلة. كشفت الجلسات الأولى عن علاقة فادي بوالدته، التي كانت تعاني من شخصية وسواسية قهرية (Obsessive-Compulsive Personality Disorder). كانت أم فادي تقضي ساعات في التنظيف والتأكد من كل شيء، وتتوقع الكمال من فادي. "كانت تخاف عليّ من كل شيء، من الهواء، من الجراثيم، حتى من اللعب مع أصدقائي خوفاً من أن أصاب بمكروه. أتذكر كيف كانت تفحصني يومياً بحثاً عن أي كدمة أو خدش." لقد كان هذا القلق المتأصل جزءاً لا يتجزأ من نشأته.
هذا النمط العميق من القلق انتقل إلى حياة فادي الزوجية. في المنزل، كان يبالغ في نظافة كل شيء، ويصاب بالذعر من أي بقعة. أصبحت زوجته سارة مرهقة من زياراته المتكررة للطوارئ وشكواه المستمرة من أعراض وهمية. "لقد دمرت زواجنا تقريباً، لم يعد هناك مجال لأي حديث إلا عن مرضي المزعوم،" اعترف لي بأسى. وفي العمل، تضاءلت إنتاجيته بشكل ملحوظ بسبب انشغاله المستمر بمراقبة جسده والبحث عن أعراض جديدة على الإنترنت.
ركزت مع فادي على التعرف على الآلية الدفاعية (Defense Mechanism) التي كان يستخدمها: إزاحة القلق العميق حول العلاقة مع والدته والاحتياجات غير المشبعة إلى أعراض جسدية. عملنا معاً على استكشاف مشاعر الغضب (Anger) والذنب (Guilt) المكبوتة تجاه والدته وتوقعاتها غير الواقعية. كانت هذه المشاعر مدفونة تحت طبقات سميكة من القلق الصحي.
أتذكر لحظة مفصلية عندما شعر فادي بغضب شديد تجاه والدته للمرة الأولى، وهو أمر لم يسمح لنفسه به قط من قبل. "أشعر وكأنني أريد أن أصرخ في وجهها، أن أقول لها كفى! هذا ليس عدلًا!" قالها وعيناه تدمعان. كانت تلك بداية فك الارتباط بين الوهم والقلق. مع كل جلسة، كان فادي يتعلم كيف يتعرف على مشاعره الحقيقية وكيف يعبر عنها بطريقة صحية، بدلاً من تحويلها إلى أعراض جسدية.
بعد عدة أشهر، بدأت أرى التغيير في فادي. توقفت زياراته المتكررة للطوارئ. بدأ يتواصل بشكل أفضل مع زوجته، وتناقص قلقه بشكل ملحوظ. في إحدى الجلسات الأخيرة، قال فادي بابتسامة هادئة: "لقد عدت أستمتع بالحياة. لم أعد أرى الأشباح في كل وجع. لقد كانت رحلة صعبة، لكنها أنقذت حياتي." نظرت إليه، ورأيت أمامي رجلاً حراً من قيود ماضيه. هذه هي المكافأة الحقيقية لعملي.
#اكتئاب #وهم