27/10/2025
أَوَان حماية المدنيين ..!
في عام 2011 أصدر مجلس الأمن قرارين في غضون أيام يأمران باتخاذ كافة التدابير لحماية المدنيين الليبيين المهددين بخطر إبادة مزعوم، دون تحقيق أو تمحيص كافيين. كانت نتيجة ذلك من أخطر ما شهدته البلاد: عدوان عسكري نفذه حلف شمال الأطلسي ودول أخرى، عربية وغير عربية، دمَّر المؤسسات المدنية والعسكرية والأمنية في ليبيا، وأدّى إلى إسقاط النظام الوطني. ومكّن هذا التدخّل عصابات مسلحة من السيطرة على الدولة وإدارتها؛ فعمَّ الفساد وتحوّل ما سُمّي يوم «التحرير» إلى كارثة وطنية واسعة.
زُجّ بعشرات الآلاف في معتقلات تحت سيطرة مجموعات مسلحة من غير ضوابط قانونية أو أخلاقية، وشُرِّد مئات الآلاف من بيوتهم وديارهم. ذكرت إحصاءات دولية عام 2012 وجود أكثر من مليوني مهجَّر ليبي في مصر وتونس وحدهما، وعانى المهاجرون والنازحون المدنيون ظروفًا إنسانية قاسية.
وُضعت ليبيا تحت وصاية أممية تولاها موظفون من درجات وظيفية دنيا، كان همّهم الرئيسي الحصول على رواتب وتعويضات مالية، لا إيجاد حل للأزمة أو تنفيذ ما يخدم مصلحة الليبيين. تشكّلت سلطات محلية من أشخاص غير مؤهلين بينهم كثير من المجرمين والإرهابيين الذين مارَسوا العبث والفوضى وحوَّلوا الدولة إلى غنيمة لتحقيق مصالح شخصية؛ فنشروا الفساد وانهارت الخدمات: الصحة والتعليم والكهرباء، وحدثت ندرة في الوقود، وفساد في النظام المصرفي وانعدام للسيولة.
من أخطر أنواع الفساد وأكثرها تأثيرًا على حياة الناس هو فساد توريدات الغذاء والدواء. امتلأت السوق الليبية بمواد فاسدة يضطر المواطنون لاستهلاكها لعدم وعيهم أو لغياب مؤسسات رقابة حقيقية تابعة للدولة. يقدّر مراقبون أن ما لا يقل عن 40 % من الأدوية المتداولة في السوق الليبي مغشوشة ودخلت عن طريق التهريب. ولا تخلو الذاكرة من صور تظهر مصانع تعيد تغليف أدوية وتزوّر تواريخ صلاحيتها. وهذا يعني عمليًا أن المواطن لا يستطيع التمييز بسهولة بين الدواء السليم والمزوَّر.
أضف إلى ذلك انهيار القطاع الطبي العام، وتحول مرافق صحية ضخمة من مستشفيات وعيادات إلى مبانٍ خاوية على عروشها بلا إمكانيات تشخيصية أو علاجية. صار معظم النشاط الطبي مرافق خاصة غير مؤهلة لتحمّل كامل مسؤولية الرعاية الصحية، وغالبًا ما يملكها أشخاص غير مختصين، وأُنشئت بعضها كواجهة لغسيل أموال ناتج عن جرائم مثل تجارة المخدرات وتهريب البشر وتجارة السلاح.
حياة الليبيين مهددة فعلًا بسبب انهيار القطاع الصحي. لا يغيب عن البال تزايد الأمراض وخطورتها نتيجةً للاستخدام الواسع لليورانيوم المنضب ومختلف أنواع المتفجرات خلال حرب 2011 وما بعدها، وبسبب استهلاك مواد غذائية غير صحية، وكثرة الحوادث والإصابات الناتجة عن انهيار شبكات الطرق والمواصلات.
في عام 2011 كان التهديد المزعوم متمثّلًا في القتل أو الإصابة بسبب الحرب، وهو ما استمر بعد التدخّل الأجنبي؛ لكن عدد القتلى والمصابين بعد «يوم التحرير» تضاعف عشرات المرّات مقارنة بمن قُتلوا عام 2011.
اليوم، أصاب خلل أساسي كل مكوّنات القطاع الصحي: الوقائية والتشخيصية والعلاجية. قدرة المواطنين المادية لا تتيح لهم تلقي رعاية مناسبة في القطاع الخاص. كثير من الأدوية والمستلزمات الطبية تشبه السموم وتفاقم الحالات بدل معالجتها. تُضاف الفوضى في توظيف ومتابعة العاملين الصحيين — لا رقيب ولا حسيب — وخصوصًا بعض الأجانب القادمين بلا مسوغات أو تقييم علمي، في عملية تسودها الفساد. كما يشتكي القطاع من ضعف تأهيل الكوادر الليبية التي تحاول تطوير نفسها بالحصول على شهادات أحيانًا غير حقيقية من دول مختلفة، دون ضوابط أو تقييم محلي جدي.
الرقابة على كفاءة الأطباء والعاملين الصحيين من أهم قواعد الخدمة الصحية السليمة — وهي منعدمة كليًا في بلادنا؛ فكلٌّ يعمل بما يشاء دون مؤهلات أو تصاريح مزاولة، وهذه ظاهرة معروفة يراها الجميع.
إنّ تدخلًا دوليًا عاجلًا لحماية المدنيين الليبيين من هذا الخطر الحقيقي على حياتهم بات ضروريًا، خاصة وأن انهيار قطاعات أخرى مرتبطة بمبدأ الصحة للجميع — كالكهرباء والنقل والأمن والتعليم — يزيد من شدّة الخطر نتيجة ضعف وفساد أجهزة الرقابة.
المكابرة تجاه هذه المسألة خطر إضافي. نحن بحاجة إلى تدخل دولي حقيقي وفعّال وحاسم، ليس فقط لحل الأزمة السياسية أو تطوير الاقتصاد أو معالجة الأزمة الأمنية، بل لحل الأزمة الصحية التي تُعرّض حياة المدنيين للخطر. قد يعترض البعض بأن التصريح بدعوة للتدخل الدولي يتعارض مع مبادئ الاستقلال والابتعاد عن عبث الأجانب؛ لكن الواقع المؤلم يُبيّن أننا عاجزون عن إدارة انهيار الخدمات الصحية بمسؤولية وجديّة، نتيجة ثقافة المجاملة التي تحكم تصرفاتنا. المجاملة في مسائل الصحة قد تعني الموت؛ كأن نجامل مريضًا يعاني انسدادًا في الشريان التاجي فنمتنع عن إجراء الفحوصات والتداخلات اللازمة، فذلك مساهمة في قتله لا محالة، والسبب الأهم هو مسؤولية ما يسمى المجتمع الدولي المباشرة على ما لحق بالقطاع الصحي من أضرار تهدد حياة ملايين البشر من الليبيين وغيرهم.