18/09/2025
العبث الممنهج !
ضمن سياسة الإلهاء التي تنتهجها “الحكومة الخفية” التي تدير ليبيا لمصلحة الغرب الوصي عليها، تُطرح قضايا ثانوية للهروب من القضايا الأساسية، وعلى رأسها ما يتعرض له قطاعا الصحة والتعليم العام من تهميش وإهمال وإفساد مبرمج.
وتعليقاً على رأي إدارة القانون بالمجلس الأعلى للقضاء، رداً على رسالة رئيس جامعة مصراتة التي حوت جملة من المغالطات القانونية (ليس من اختصاصي تناولها)، رأيتُ من الأهمية بمكان توضيح ما ينبغي أن يعلمه المجلس الأعلى للقضاء ومن يعنيهم الأمر.
في تقديري، قيام إدارة القانون بالمجلس الأعلى للقضاء بإصدار هذه الفتوى أمر يثير الاستغراب، إذ أن الرأي القائل بأن التعيين في هيئات التدريس بالكليات الطبية ينبغي أن يُقصر فقط على حملة شهادات الماجستير والدكتوراه، وعدم جواز تعيين حملة شهادات البورد والزمالة (بما في ذلك شهادات مجلس التخصصات الطبية الليبي والمجلس العربي للتخصصات الطبية)، رأي يجانبه الصواب.
فهذا الموقف يتعارض مع طبيعة التعليم الطبي ذات الخصوصية العملية، ويُعد طرحاً خاطئاً ومدمّراً للتعليم الطبي، بل وغير قابل للتطبيق عملياً.
إن محاولات بعض الأطراف إثارة الجدل حول الشروط الواجب توافرها فيمن يحق له التعيين كعضو هيئة تدريس بالكليات الطبية أمر غريب، خصوصاً عندما يأتي من أكاديميين يُفترض أنهم على دراية بما هو معمول به في كليات الطب حول العالم.
ورغم أن المسألة محسومة قانونياً وفقاً للقرارات التنفيذية النافذة، ووفق ما هو متبع منذ تأسيس أول كلية طب في بنغازي سنة 1971، وما هو معمول به في كليات الطب حول العالم، إلا أن البعض – ربما لدوافع شخصية – يحاولون إثارة خلاف في أمر واضح وجلي.
خصوصية التعليم الطبي
إن التعيين للتدريس في الكليات الطبية يستوجب الحصول على مؤهل علمي وأكاديمي ومهني، خاصة في التخصصات السريرية، لأن الطب مهنة عملية يتم تدريب الطلاب عليها ليتمكنوا من ممارستها لاحقاً.
وفي العالم، يشترط فيمن يُعيَّن كعضو هيئة تدريس بكليات الطب الحصول على شهادات مهنية متعارف عليها:
• شهادة الزمالة في بريطانيا وأستراليا والدول التابعة للنظام الإنجليزي.
• شهادة البورد في كندا والولايات المتحدة.
• شهادات التخصص في ألمانيا وفرنسا وغيرها.
وهي شهادات أكاديمية ومهنية يحصل عليها الأطباء بعد تدريب سريري مكثف وامتحانات متدرجة.
أما شهادات الماجستير والدكتوراه في العلوم الطبية السريرية، فهي غالباً لا تؤهل حامليها لممارسة التخصص الطبي سريرياً؛ إذ يمكن أن ينال الطبيب شهادة الدكتوراه في الجراحة أو الباطنة دون ممارسة فعلية بالمستشفيات، ويقتصر نشاطه على البحث العلمي في موضوع محدد قد لا تكون له علاقة مباشرة بالعمل السريري اليومي. وعادةً ما يكون هذا النشاط مطلوباً في مراكز البحوث وشركات الأدوية، و يتم توظيف حملة الماجستير والدكتوراة في مراكز البحوث و شركات الأدوية و ليس في تدريب الطلاب على الطب السريري.
ويُستثنى من ذلك الشهادات التي تمنحها بعض الجامعات المصرية (القاهرة، عين شمس، الإسكندرية، الأزهر) التي تمنح شهادات مهنية قائمة على تدريب عملي وامتحانات وأبحاث علمية. وقد استحدث مؤخراً نظام الزمالة عبر المجلس المصري للتخصصات الطبية، مع اعتراف كامل بشهادات المجلس العربي للتخصصات الطبية والمجلس الليبي للتخصصات الطبية.
لكن، في المقابل، هناك جامعات مصرية أخرى تمنح شهادات ماجستير ودكتوراه للأجانب دون تدريب فعلي، وبطابع تجاري أقرب إلى “المراسلة”، حيث يحضر الطالب لفترات وجيزة ثم يعود لينال درجة علمية صورية.
التعليم الطبي في ليبيا
انطلق التعليم الطبي في ليبيا مطلع السبعينات بافتتاح كلية الطب بجامعة بنغازي سنة 1971، على أيدي عدد محدود من الأطباء الليبيين الحاصلين على الزمالة البريطانية، إضافة إلى أشقاء من مصر وفلسطين وبنغلاديش وباكستان والهند ممن يحملون ذات المؤهلات.
ثم تأسست كلية الطب بجامعة الفاتح، وتوالى إنشاء الكليات ليبلغ عددها اليوم – حسب المعلومات المتاحة – نحو 13 كلية طب موزعة في أنحاء ليبيا.
وقد تولى التدريس فيها حملة شهادات الزمالة والبورد (الأمريكي، الكندي، العربي، الليبي)، وأسهموا في تخريج أطباء أكفاء يتولون حالياً تقديم الخدمات الطبية في ليبيا، وأثبتوا جدارتهم على مستوى العالم، حيث يعمل الآلاف من خريجي الطب الليبي في بريطانيا وكندا وأمريكا وألمانيا وأستراليا والخليج العربي، وكثير منهم يشغلون مواقع قيادية في الجامعات والمستشفيات.
تأسس مجلس التخصصات الطبية في التسعينيات ليتولى تدريب الأطباء وتأهيلهم كأخصائيين في المرافق الصحية، معتمداً على نظام تدريب متواصل، وامتحانات تحريرية وعملية، وبحوث علمية.
وقد اعتُبرت شهادتا المجلس الليبي للتخصصات الطبية والمجلس العربي للتخصصات الطبية أعلى شهادة مهنية وأكاديمية في مجال العلوم الطبية، وذلك بموجب قرارات رسمية نافذة في ليبيا وخارجها، وهي معترف بها في أغلب دول العالم.
يخضع الحصول على هذه الشهادات لبرنامج تدريبي لا يقل عن خمس سنوات، يتخلله امتحانان (جزء أول وجزء ثانٍ تحريرياً وشفوياً وسريرياً)، إضافة إلى بحث أكاديمي أصيل يُناقَش أمام لجنة علمية ويُنشر في مجلة محكمة، مع اعتماد كتيبات المهارات من المدربين المختصين.
وقد صدر قرار من اللجنة الشعبية العامة يحدد وضعية هذه الشهادة، وأكده مؤخراً قرار مجلس الوزراء بحكومة الوحدة الوطنية. ومنذ منتصف التسعينات يتم تقييم الشهادات الطبية في ليبيا على أساس هذه المرجعية.
المآلات الخطيرة للفتوى
إن إقحام المجلس الأعلى للقضاء في موضوع فني بحت، وإصداره لهذه الفتوى التي لم تخضع – في تقديري – للتدقيق والتمحيص، سيؤدي فقط إلى إلحاق المزيد من الضرر بالتعليم الطبي، الذي يسير أصلاً بالحد الأدنى من الإمكانيات وفي ظروف سياسية وأمنية بالغة التعقيد.
ولو سلّمنا جدلاً بهذه الفتوى المعيبة وتم تطبيقها، وسُحب آلاف أعضاء هيئة التدريس من كليات الطب، فهل يوجد عدد كافٍ من حملة الدكتوراه لتعويضهم؟ وهل يمتلك هؤلاء القدرة والمهارة لتدريس الطلاب في الجانب السريري؟
الواقع أن حملة الماجستير والدكتوراه في العلوم الطبية السريرية محدودون جداً عالمياً، ومعظمهم منغمسون في المهام البحثية ولم يسبق لهم التعامل مع المرضى، فلا يمكنهم تدريب الطلاب على الممارسة الطبية العملية.
رسالة إلى أعضاء هيئة التدريس
إلى زملائي أعضاء هيئة التدريس في كليات الطب:
لقد قُدّر لكم أن تكونوا على جبهات متعددة، فأنتم مؤتمنون أولاً على صحة الناس، وثانياً على إعداد أطباء أكفاء قادرين على تحمّل المسؤولية مستقبلاً