04/05/2025
"آدم" .. وُلدَ في مستشفى يحرس الحياة
مشافينا نفخر بها .. طولكرم الحكومي
في إحدى الليالي من العام الجاري، وبينما كانت أصوات القنابل تهز أحياء طولكرم، وغازٌ مسيلٌ للدموع يزحف نحو أبواب المستشفى، وقلقٌ يملأ غرف الطوارئ... وُلد "آدم".
صرخته الأولى لم تكن وحدها، فقد رافقتها صافرات سيارات الإسعاف، وصوت مُسعف يصرخ في الممر بحثاً عن سرير شاغر لمُصاب من نار اقتحام قوات الاحتلال للمدينة.
"آدم" ليسَ طفلاً فحسب، بل رمزاً لميلاد في الخوف، واقتباساً من طفولة تُبصر أول النور في مستشفى يرجو الأمان.
ومن خلف زجاج غرفة الحضانة، راقبه الأطباء بابتسامة صغيرة... كأنما يقولون له: "مرحباً بك في الحياة، رغم كل شيء."
لم يكن طفلنا الفلسطيني هذا وحيداً، فقد استقبل المستشفى خلال عام 2024 أكثر من 2,500 مولود، جميعهم وُلدوا في زمنٍ لا يشبه الزمن، تحت الخطر، وفي ظلال الخوف واقتحامات الاحتلال المتكررة.
مستشفى يحلم بالأمان
مستشفى الشهيد د. ثابت ثابت الحكومي في طولكرم مؤسسة صحية تسعى كباقي المستشفيات في هذا العالم، وأن تعيش في ظل نظام صحي تحميه القوانين والاتفاقيات الإنسانية الدولية من الخطر والتهديد والاقتحام، مستشفى يتأمل الأمان، كما تتأمله أي مؤسسة صحية في هذا العالم، ولا يزال يقدم الخدمة لأكثر من 210 آلاف نسمة، ويعمل فيه 410 موظفين ويحتوي على 133 سريراً .
منذ نحو ٣ شهور متواصلة، وبينما المستشفيات في بقية العالم تتسابق في الأبحاث وتتنافس على المعايير، يُعاند المستشفى الحكومي الواقع الصعب من اقتحام الاحتلال المتواصل للمدينة وحصاره المتكرر للمستشفى، فينفث بعيداً دخان قنابل الغاز المسيل للدموع التي تُلقى في حرمه، ويحتضنُ كلَّ من فيه بينَ جدرانه المتينة، ويبعدهم عن الرصاص الذي يكسر نوافذه.
في طولكرم سيارة إسعاف تُوقَف لساعات على حاجز احتلالي، والمريض بداخلها يحتضر، يُجبر على النزول كي يكمل الطريق وحده، وطاقم طبي يتعرض للتفتيش اليومي، ليس بحثاً عن أدوات طبية، بل في محاولة لكسر الروح.
أرقام تحكي وجعاً وحياة
في قسم الطوارئ أكثر من 70 ألف مريض دخلوا باحثين عن الحياة، من بينهم نحو 17 ألف مريضٍ لم يخرجوا إلا بعد إقامة للعلاج، وفي قسم الولادة أكثر من 2500 مولود اختاروا الحياة، وصرخوا صرختهم الأولى في مدينة تئنّ تحت الحصار، وفي غرف العمليات نحو 2900 عملية جراحية أجريت، خلال العام الماضي.
وفي قسم غسيل الكلى 155 مريضاً توزعوا على 20 جهاز غسيل كلى، لنحو 29 ألفَ جلسة غسيل، كل جلسة كانت بمثابة أمل إضافي للحياة.
أما في قسم الأورام فقد واصل 450 مريضاً علاجهم، رغم انقطاع الطرق الآمنة في الوصول وفي قلب الخوف، فكانت 10,500 زيارة عنوانها "لن نستسلم".
والعيادات الخارجية استقبلت أكثرَ من 20 ألفَ مراجَعَة طبية، كل زيارة مراجَعة تحملُ قصة.
واجبنا أن نظلَّ ندعمَ ونطور
وزير الصحة د. ماجد أبو رمضان: "الوزارة تواصل العمل بكل طاقتها رغم الظروف الصعبة لتوفير الرعاية الصحية الآمنة والمتقدمة لمواطنينا، والمستشفى يحظى بأولوية في خطط الدعم والتطوير."
د. أبو رمضان: "إصرارنا على استمرار تقديم العلاج وتطويره ينبع من إيماننا العميق بحق الإنسان الفلسطيني في تلقي خدمة صحية تليق بكرامته، حتى في أحلك الظروف، وسنبقى إلى جانب مستشفياتنا وفرقنا الطبية، ونبذل كل جهد ممكن لضمان صمودها وتطورها."
وسط كل هذه التحديات، عززت الحكومة الفلسطينية ووزارة الصحة الدعمَ بمختلف الأشكال رغم الظروف الصعبة التي تمر بها فلسطين، جراء تصاعد وتيرة عدوان الاحتلال على كافة المناطق، وتزايد حدّة الحصار المالي الخانق الذي يفرضه الاحتلال على فلسطين، وأثره الكبير في صعوبة توفير متطلبات الحياة والعلاج الأساسية.
وقد وفّرت الوزارة مخزون أدوية ومستهلكات طبية يكفي لستة شهور، لسد أي عجز قد يحدث جراء الأوضاع الطارئة، كم ساهمت مؤسسة MAP بتوريدات مستمرة من التبرعات الطبية، كما جرى استلام مبنى العيادات الخارجية والمستودعات والسكنات ومحطة الأكسجين وخزان الغاز، بتمويل من "بكدار" بقيمة 400 ألف دولار.
وخلال هذه الفترة العصيبة، ظل الأمل بالتطوير أساساً للاستمرار، من خلال البدء بالتخطيط لمبنى من أربعة طوابق سيضم الإدارة، قسم الأورام، العناية المكثفة، قسم الإعاشة، وقاعة المؤتمرات، بتمويل تقديري يبلغ 14 مليون شيكل، وجرى نقل وافتتاح قسم غسيل الكلى الجديد بوحدة معالجة مياه، وتزويد المستشفى بجهاز أشعة Digital X-Ray، وأسرة طبية، وسيارة إسعاف، وجهاز تخدير، وغيرها من المستلزمات الطبية.
وزارة الصحة اليوم تضع ضمن أولوياتها فيما يخص دعم المستشفى، توسعة قسم الطوارئ، وإعادة تأهيل مداخل الطوارئ، وتشطيب سكنات الأطباء، وتوسعة قسم غسيل الكلى، وتجهيز المباني الجديدة، وتوفير جهاز رنين مغناطيسي، وسيارة إسعاف جديدة.
مدير عام المستشفى د. أمين خضر: "يقف مستشفى طولكرم الحكومي شاهداً على أصعب أنواع المعاناة التي يمكن أن تمر بها أي مؤسسة صحية، جدرانه ليست مجرد جدران، بل تحمل أوجاع الناس وآمالهم، تتنقل بينها قلوب الأمهات التي تلد وتودع، وآلام المرضى الذين يواجهون مصيرهم في ظروف صعبة."
المستشفى ينبض بالأمل
في هذا المستشفى، لم تقتصر المعاناة على المرضى فقط، بل طالت كل من كان يخطو داخل أسواره، ويظل أبطال المستشفى من الأطباء والممرضين والفنيين والإداريين والجميع، بجانب المرضى، يبذلون كلَّ شيء لإنقاذ الحياة.
سيكبرُ آدم
بعد سنوات، سيكبر آدم، وسيُمسك بيد أمه، ويمشي معها أمام المستشفى الذي وُلد فيه ذات ليلة، سيسألها عن يومِ ميلاده، وستنظرُ إليه وتهمس: "يومها كنتُ أختبئ بك... وأحميك من كل خوفٍ في حضني وفي قلبي".
سيكبر آدم، وسيحمل في صوته حكاية، وفي عينيه وعداً بأن الطفولة الفلسطينية، وإن أُجبرت على الانطلاق في العتمة، ستنير ذات يوم درب الحياة.